ماجد السّنجري.. والرؤى التّشكيليّة المغايرة

1٬345

عبد الأمير خليل مراد /

لماذا يختزل الفنان التشكيلي من خلال فرشاته، رؤيته للوجود الإنسانيّ؟ سؤال يؤرّقني كثيرا، وأنا أقف أمام لوحات الفنّان التّشكيليّ ماجد السّنجريّ، إنّه سؤال يختصر الكثير من المحددات الثّقافيّة، والحدوس الإجرائيّة الّتي تدفع المتأمّل إلى قراءة هواجس الفنّان، والبحث عن ارتباطه ببيئته الشّعبيّة،

وعالمه الإنسانيّ.

إنّ مثل هذه الأسئلة، هي أسئلة آليّة ودراماتيكيّة مفاجئة، أو أنّها أسئلة اعتباريّة تحاول افتضاض الأغطية السرية في تجربة السّنجري الإبداعيّة. ولعلّنا هنا، لا نعدم الإجابة في العديد من المعاينات والاقترابات من لوحاته، وهي تجسّد الرّؤى الصّادمة، والمفارقات المغايرة، فالسّنجري يحاول استقراء هذا العالم بلهفة العاشق المأخوذ بعشقه، وحرارة الولهان المأسور بفنّه، وهو يلتقط ملء ضميره من هذا المنظور الإنسانيّ الهادر، تلك الذات المعذّبة،

والمشاعر المتوهّجة.

ويمكن للمتلقّي أن يستجلي قراءات عدّة في تجربة ماجد السّنجريّ الفنية، حيث تحتدم الأفكار وتتبين الكثير من اللّوحات التّشكيليّة المؤسّسة على الوعي الإنسانيّ والتّاريخيّ، حيث تأخذنا هذه النّماذج التّشكيليّة إلى العصور البابليّة والسّومريّة وتستغرق في ضرباتها، وأسطحها اللامعة تلك، محطّات الماضي، واستثمار التّجارب القديمة، والتّكوينات الأسطوريّة المدهشة في فضاءات الرّسم المعاصر.

كما يميل السّنجريّ إلى رسم الأشخاص في لوحاته، ونادراً ما نجد لوحة خالية من هذا الامتياز، وهذا برأيي يشير إلى اهتمام الفنّان بالإنسان بوصفه قضيّة، وهذه القضيّة هي التي تستوعب بمراميها تحوّلاته التشكيليّة الجديدة، وعصرنتها عبر الإحالات الوجدانيّة، وتوظيفها في جعل الإنسان المقهور مصدراً للإبداع، فالرّؤوس المقطّعة، والوجوه المشوّهة، والجثث الطافية، والأصابع المجذوذة نتلمسها واضحة في لوحات السّنجريّ، وهي إشارات، وإيماءات إنسانية مبكرة، استطاع الفنّان أن يجعلها همّاً ذاتياً، وهاجساً يسيطر على تفكيره، ومعاناته اليوميّة.

إنّ السّنجري فنّان مبدع مخلص لفنّه وأدواته، وهو يبحث عن الرّوئ المغايرة في إنتاج اللّوحة، حيث نراه متوتّرا، مشدودا إلى ريشته أمام القماشة البيضاء، وهو يتصدّى لقراءة الواقع، وصناعة اللّوحة، وهو بكلّ هذا يجاهد في ابتكار اللّحظة الفنيّة الجديدة، وخلق عناصر بصريّة غاية في التجدّد والتكوين.

إنّ انشداد الفنّان السنجريّ إلى تجربته وتثوير أدائها عبر انحيازه إلى الفضاءات الصّاخبة، والملاذات الضاجّة هو انشداد مطلق، قائم على الوعي الفنّي والإخلاص إلى تلقائيّته الصّادمة، حيث يؤرّق هذا العالم الفنّان بانزياحاته اللافتة، وتوتراته وتوجّساته وأحزانه. وهنا يكون السنجريّ أمام لوحة تتداعى بين خطوطها الخواطر، وتتكوّن المشاعر والعواطف بطرق مختلفة، وهو يحاول اختراق السّائد والمألوف، واعتماد مجسّات مرهونة بحالات الاكتشاف، والنّبش في السرّي والمكبوت.

ففي معرضه (ثنائيّة الحب والألم) الذي يضمّ لوحة (أبناء الشّمس) نرى شخوصاً يمدّون بأعناقهم إلى الأعالي، تلك الأعالي المغرقة بنور الشّمس الغاطسة في السّواد يميناً ويساراً، حيث تمثل هذه الأعالي نوعاً من نشدان الخلاص، والبحث عن الآمال المطمورة في رتابة الحياة اليوميّة، فاللّوحة تغرق بعالم من السّواد، وهو يشي بالتّشاؤم، أمام طوفان من الآمال والأحلام الطّافية على سطح الحياة.

أمّا في لوحة (محاكاة عراقيّة)، فيحاول الفنّان السنجريّ قراءة حاضر حياتنا اليوميّة كعراقيين من خلال قراءة النّفس البشريّة، تلك النفس المجبولة على حبّ الحياة، وانتظار الآتي، حيث نرى هذه النفوس وهي في حالة من الاشتباك مع حاضرها، إنّها أنفس يريد لها الفنّان أن تتمرّد على الشّقاء والبؤس الّذي يتناهبها من كلّ جانب، فهذه الأنفس في حيرة من أمرها (وجوه مؤتلفة وقلوب مختلفة) كما يقول عنها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، وهذه التمردات المعكوسة بين الوجوه المتنافرة، هي وجوهنا نحن العراقيين الباحثين عن آمالنا وأحلامنا في دوامة العنف والقتل المجانيّ الّذي أصبح علامة من وجودنا اليوميّ، حيث نرى السنجري يجسّد في لوحته هذه، تلك الأرواح المعذّبة وهي تريد أن تنتفض على أجسادها وهموم الحياة اليوميّة الثّقيلة.

وفي لوحة (سائرون إلى المجد)، يحاول الفنّان التّركيز على اللّون الأصفر، الّذي ينبثق من الشمس وهي حالة من التفاؤل، والاحتفاء بالانتصار، حيث يجسّد هذه الشخوص الحالمة وهي تغادر الظلام المطبق نحو بوابات الشمس المفتوحة على الفضاء الأمثل. والسائرون هم الآملون في حياة أخرى مليئة بالعطاء والسّمو الإنسانيّ غير أنهم يحدقون في السماء، تلك السماء المملوءة بزخات المطر، وهنا تتشكل اللوحة على رمزيّة المطر، وهو يمنح الحياة للإنسان، كما أنّ مفردات اللّوحة تذكرنا بكلكامش، ذلك البطل الأسطوري، وهو يبحث عن الخلود، خلود المرء في عالم لم يقم إلّا على الخراب والموت، حيث يحاول ماجد السّنجريّ المزواجة بين البقاء والانطفاء.

في أكثر من ثلاثين لوحة فنية يقدم السنجري تجربة فنية جديدة في صناعة اللوحة، حيث استخدم منذ العام 1995م هذه التجربة باستعمال (الشمع ودخانه)، وهذه، كما أعلم، تجربة جديدة لم يسبقه إليها أي فنان، وهي مادة أساسية للرسم وتنفيذ الأعمال الفنية، وهذا التوجه يعدّ اكتشافاً جديداً يمكّن الفنان من الاستغناء عن المواد التقليديّة والألوان الجاهزة في العملية الفنية.

ومن إحدى تجاربه لوحة (السّماء الخرساء) وهي لوحة نفذها بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً، حيث يحاول الطائر، طائر الحرية الحالم، بالطمأنينة، أن يخترق العالم والوجود بحثاً عن أمكنة جديدة وسماوات حياتيّة غير أنّه يجد فضاء مضطرباً، فضاء تحتدم فيه النّيران وتتعالى في هديره أسباب الدّمار، لكنّه يجدّف بجناحيه على الرّغم من هذه الأهوال الّتي تحاول ثنيه عن فضائه السّحريّ وعن عالمه المتخم بالحبّ والبراءة.

كما نجده يؤصّل هذا المنحى في الرّسم الجديد، محاولا تأكيده باستعمال الشّمع ودخانه في لوحة أخرى تحت عنوان(حروفيّات) وهي تشير إلى مدرسة الفنّ العربيّ في توظيف الحرف ومنحنياته، بوصفه علامة مهمّة ومصطلحا تكوينيا في إنتاج اللّوحات، وإن تمّ استخدامه سابقا بصيغ أخرى من قبل الفنّانين جميل حمودي وغالب المسعوديّ، غير أنّ السّنجري في هذا الاتجاه يمنح الحرف تشكّلات لونيّة ورموزا روحيّة وتصوّرات جديدة، خصوصا من خلال رؤيته الرّائدة وتنوّعاته المتمثّلة في التّدرّج اللّوني (الهارموني) لإبراز حروفيّات اللّوحة بصيغ فنّيّة آسرة، خصوصا تلك اللّوحات الّتي تقدّم تجارب استثنائيّة مبهرة، وهي تستفز كلّ متتبّع لتجربة الفنّان التّشكيليّ ماجد السّنجريّ بخصائصها وتقنياتها الجماليّة المختلفة بالإضافة إلى لغتها البصريّة الواضحة، وهي تفصح عن فنّان تشكيليّ متمكّن من أدواته في الإيقاع والتّوازن واللّون والفكرة، وقدرته على استيعاب التدرّجات الهندسيّة، والأشكال التّصويريّة المعقّدة في فضاء اللّوحة.

من هنا، يمكن القول، كما قرّر غوته: إنّ السنجريّ يمارس الفنّ كتأويل للواقع، ليس بالمفاهيم بل بالرّؤى والأفكار والحدوس.