مارتن ورنتون.. وأول فيلم باللغة البابلية الأكدية

382

رجاء الشجيري /

كثيراً ما تقدم السينما أفلاماً تاريخية، تتحدث عن حقب مضت وحروب خاضتها الأمم، وصراعات سياسية أو ثقافية مرت بها الشعوب، وهي حين تفعل ذلك فإنها تلجأ إلى تقديمها بلغة معاصرة، فالأفلام الإنكلوسكسونية تُقدم باللغة الانجليزية المعاصرة لتكون مفهومة لجمهور اليوم، على أننا نعلم أن الانكليزية المعاصرة تختلف اختلافات واضحة عن انكليزية القرون الوسطى مثلاً…
وهكذا الأمر إذا أنتج الفرنسيون فيلماً تاريخياً فستكون لغة الحوار والسرد في الفيلم هي الفرنسية لا شك، لكن أن يعمد فريق علمي أكاديمي إلى تصوير فيلم قديم يصور حضارة مندثرة لكن بلغة تلك الحضارة، فتلك سابقة ثقافية وسينمائية غير مشهودة من قبل.
فيلم “الرجل الفقير من نيبور أو نفّر” هو أول فيلم أُعد باللغة البابلية القديمة “الأكدية الجنوبية” واللغة الأكدية (لشانم أكديتم) هي لغة عراقية قديمة ومن اللغات السامية، ظهرت في بلاد الرافدين منذ ٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد، قصة الفيلم من القصص الهزلية في الأدب السومري القديم، قدمها الاكاديمي البريطاني “مارتن ورنتون” مع طلبته من خلال التجسيد الدرامي لحكايتها التي كتبت ووجدت على رقم طيني يعود إلى سنة ٧٠١ قبل الميلاد، اذ وُجدَ الرقيم في منطقة سلطان تيبي جنوب شرق تركيا، وظل مارتن يتعلم اللغة الأكدية ويعلمها لطلبته، إذ يقول: إن تحدث هذه اللغة ليس صعباً، فالبنى (النحوية) فيها معتادة تماماً، وإن معظم المتعلمين سيجدون في مرحلة ما، ربما نحو سبعة أشهر، أنهم قد تمكنوا منها فجأة”.
ويضيف: إن اللغة البابلية هي إحدى اللغات السامية، كالعبرية والعربية اللتين حلتا محلها في منطقة الشرق الأوسط”.
وقد جرى تصوير الفيلم في مواقع الكليات التابعة لجامعة كيمبردج وموقع احتفال الملك، والمتحف البريطاني، ومتنزه فلاك فين التراثي وبعض مناطق جرانتشستر .

أحداث القصة
تدور أحداث القصة التي بطلها شاب فقير اسمه (جِميل ننورتا – Gimil-Ninurta ) كان يعيش في مدينة نفّر السومرية أو نيبور شرق مدينة عفك في الديوانية.
وتأتي قدسية هذه المدينة من كونها العاصمة الدينية ومقر الإله انليل أو (أينليل) وزوجته نينليل (نين ليل). وقد ذكر هاري ساكز أيضاً في كتابه “عظمة آشور” تفاصيل عن قصة جميل والحاكم وما دار معهما من أحداث كما تحدث عن الكتابة والأدب الآشوري والسومري.
وتبدأ القصة من شاب لا يملك شيئاً، ثم لما اشتد به فقر الحال وصار يتضور جوعاً لدرجة كادت تفقده صوابه، قرر أن يبيع ثيابه ويشتري بثمنها عنزة، ليأخذ عنزته إلى بيت حاكم المدينة هدية له لينال عنها جائزة يأكل ويشرب ويكتسي بها، ولكن خاب ظن جميل إذ غضب الحاكم عليه ونهره وطرده رغم توسلاته وشرح حاله، فقال جميل للبواب قبل خروجه: “قل لسيدك ما فعلته بي سأوافيك حقه ثلاثة أضعاف”، وتم له ذلك فعلاً وانتقم جميل من الحاكم شر انتقام..
ومدينة نيبور أو نفّر هي مدينة علّمت البشرية القراءة والكتابة واستخدام العجلات والاختام، وقد نسج الناس منذ سنين عدة قصص وروايات حولها منها قصة “أن الله قلبها وحولها إلى تل ترابي” وهي قصص كانت تحمل بعدا ميثولوجياً أو غيبياً.
وقد اضطلعت بعمليات الحفر والتنقيب في نيبور أو نفر بعثة آثارية أرسلتها جامعة بنسلفانيا الامريكية، وقد خلصت تنقيباتها إلى معرفة تأريخ المدينة وما وهبته للعالم، إذ وجدوا نصوصاً اقتصادية ورياضية وفلكية وأدبية ودينية، ومجاميع لتمرين الطلاب على الكتابة والاستنساخ ومجاميع أخرى تشتمل على مفردات لغوية وقواميس. وفي نيبور اكتشفت أولى الصيدليات وأولى المكتبات في التاريخ وأول كرة قدم…
وكان لنيبور منذ الألف الثالث قبل الميلاد مكانة كبيرة، حتى أن من شروط الحصول على الملوكية في العهد السومري أن تكون نيبور من جملة ممتلكات الملك، لأنّ إله هذه المدينة هو الذي يمنح لقب الملوكية، ولقد كانت نيبور طوال تاريخها تابعة للملوك الأقوياء الذين تولوا الحكم في أوروك وأور وبابل ونينوى، وكان الملوك يتنافسون في تقديم القرابين والهدايا إرضاء لإله هذه المدينة، وقد خضعت نيبور أو نفّر لحكم كل من السومريين والأكديين والبابليين والآشوريين في حقب متناوبة.