من وحي مسعود عمارتلي سيناريو مفترض لأغنية يا أبو طويرة!

1٬525

سلمان كيوش/

جلّل الحزنُ مسيعيدة، وجرتْ مياه الجحلة بطيئة واهنة، وفقدت الطيور الحرة شهيتها لحبوب القمح المطبوخة، فعاد الدوّاشة يحملون شِباكهم على رؤوسهم. لا أحدَ من القاطنين في بيوتِ القصب على العدل يمتلك الرغبة في الحديث عن النبأ، فقد نفي أبوطويرة، وفي هذا ما يكفي ليفقدوا القدرة على الخوض في أي حديث بعده.. لم يزيدوا على الدعاء في غروب ذلك اليوم المشؤوم شيئاً، مرددين:” اللهمّ احرقه.. اللهم اهجم بيته كل من وشى بأبو طويرة عند أبيه”.
حليب الدواب
ليت الحوشي الذي همس بأذن فالح الصيهود كان دقيقاً صادقاً في ما قاله، فقد هولَ وبالغَ كثيراً. قال لفالح بعد أن اطمأن إلى انه شربَ الطاسةَ المترعةَ بحليب الدواب كلّها:” محفوظ، ابنك أبو طويرة يرافق “البسّاتة” والمسترجلات، وبيته لا يخلو من حفلة غنائيّة راقصة كلّ ليلة. انه ينفق على “الطبلجيّة” بجنون. ألا يستحي كونه ابن شيخ البومحمّد؟”. قال فالح، وهو يغالبُ ثقلَ النومِ الذي أطبقَ على جفنيه:” وداعة صيهود.. إذا هذا الحجي صدك إلا أنفيه”.
وهكذا سرى الخبرُ بعد أن تناقلته الططوةُ والغربان، ورقصتْ لوقعه الطناطل لتحيلَ ليالي مسيعيدة إلى الكدر الذي بدا مستديماً. لم يعد أهالي مسيعيدة يهنؤون بنوم، ولا يصيبون من الطعام إلاّ ما يسدّ الرمق، فقد ذهبتْ ليالي مسعود عمارتلي، ولن يعود بإمكانهم الاستمتاع بصوته وصوت صديقه، المرأة المسترجلة الأخرى، موزان العكَبي، وأنّى لهم ذلك وقد نُفي خزعل بن فالح الصيهود إثر وشاية؟ آه يا مسيعيدة، يا عاثرة الحظ برغم مائك الوفير وهورك وطيورك وأسماكك. لم يعد من معنى لهذا كلّه وأبو طويرة يلملم أشياءه استعداداً لتنفيذ قرار النفي غداً صباحاً.
بكاء بصمت
برغم الحزن المحتدم، وبرغم الوجوم المرين على الوجوه، نام أهالي مسيعيدة بعد أن هدّ اليأسُ من عدول فالح بن صيهود عن قراره حيلَهم. ناموا كأنّهم لن يستيقظوا ولن يروا فجراً كما اعتادوا دائماً. العينان الوحيدتان اللتان سهرتا حتى الصباح هما عينا مسعود عمارتلي. بكى بصمت عند باب المضيف، وحين اطمأن إلى نوم الجميع خلع عقاله وشطفته وثغبَ بعد أن استيقن أن حزنه أكبر بكثير من رجولته المفترضة. وتمادى أكثر فمدّد ساقيه وراح ينعى مستعيداً أنوثةً كاملةً. ولولا إحدى النساء التي تسلّلتْ من مرقدها في الظلام لاستمرَّ في نعيه حتى الصباح. جلستْ بجانبه وقالتْ بودّ:” ما الأمر يا مسعود؟ لم نرك باكياً هكذا من قبل.. إذا كان خزعل شيخاً كريماً معكَ, فالشيخ محمّد لم يقصّر.. لقد احترم رجولتكَ وألبسكَ عقالاً بيده.. ألا تستحي من البكاء على سواه في مضيفه؟” كفكفَ مسعود دموعه، وقال لها:” أبو طويرة صاحبي.. ومحمّد العريبي كذلك.. غير أن روحي لا تحتمل نفي أبو طويرة.. أظنني سأموت بعده”.
إستعادة الإنوثة
لقد فضح غيابُ أبو طويرة المباغتُ ذكورةَ مسعود المفترضة. فلم يعد يضع عقاله على رأسه، هذا غير الرفيف الذي لا يهدأ في روحه وإحساسه الطاغي بالوحشة، وكأنّ أبو طويرة اختزالٌ للوجود كلّه. شعرَ مسعود بنزوع روحه نحو استعادة الأنوثة التي لا يجد لها معنى إلاّ في حضرة خزعل. خزعل هو الإنسان الوحيد الذي يتمنّى مسعود ديمومة أنوثته أمامه، هو الوحيد الذي يبدو قراره بالاسترجال خطأً كبيراً، وهو الوحيد الذي يعيد لملامح الأنثى في جسده هيبتها. هو الفرصة الوحيدة للقاءٍ لا يراه مسعود إلاّ المُحال عينه، ومع هذا لم ينكره. حين يحدّق مسعود في أنف أبو طويرة المستقيم الناعم كأنوف الإنجليز يستشعرُ لوعةً، فتمتدّ يده لتتحسّس أنفه الأفطس، وحين تمتدُّ أنظاره إلى كفّيه اللتين تشبهان صحني روبة يستبشع دكنة السمرة في كفيه.
أجبره الغيابُ على اكتشاف ما لم يعهده في نفسه. فأبو طويرة ليس مجرد صاحبٍ ثريٍّ كريم يغدق عليه بسخاء. لقد غنّى مسعود في مضايف الشيوخ كلّهم فلم يجد حنجرته طيّعةً ممتثلةً لروحه كما هي في حضرة خزعل.
موقد مستعر
في الصباح الباكر ليوم النفي وقف مسعود مراقباً لمراسيم التوديع، ثم شخصت عيناه في الطرّادة التي انحدرت في مياه الكحلاء نحو الحدود مع ايران. كان ساهماً ودموعه تهمل بصمتٍ على شطفته التي غطّتْ وجهه إلاّ عينيه. وحين ابتعدت الطرّادة ولم تعد تُرى إلاّ بصعوبة، فقد تماهت مع لون الماء الطيني ورمادية السماء المكفهرة، صرخ مسعود:” أبو طويرة…. خويه”. ولأن قلب مسعود لا يختلف كثيراً عن موقد مستعر في تلك اللحظات، فقد ردّدَ الحوشيّة نداءه بعده بالطريقة نفسها، فغدوا أشبه بالكورال.. من هنا جاءت فكرة الأغنية. وعلى الإيقاع نفسه واللوعة ردّد:
أبعدوا عني بعيد والعي غطاهم…. جاعد شسوي هنا لاتبع وراهم
أحسّ مسعود بثقل حاجته إلى توثيق حزنه.. انه بصدد إدامة الحزن وتأجيجه، فلم يتردّد عن ركوب مشحوف صغير، وانحدر مقتفياً اثر الطرادة السريعة التي تولّى التجذيف فيها أربعة رجال أشداء.. وحين اطمأن إلى وحدته وسط هور ساكن صاح:
يا أبو طويرة أريد وياك، أنا ويّاك اخذني.. وعيب اكَدر لفركَاك ومر بيّه واخذني
أحنى القصبُ رؤوسه حين صدمه نواحُ مسعود:
خزعل يا فص الماس وبهالثنيّة… يبجي العدل صوبين والعامريّة
وسكنت الطيور وكفّتْ عن الفرار أمام مشحوف مسعود وهو يقلّب ألمه:
لا ذاري طم هالدار لا زود اجاها… كلما تصدّ العين تذكر هواها
أما الدارمي الذي أحال مسعود إلى حطام:
راح العزيز يشيل شنحط بداله… دوّرنا بين الناس مامش مثاله
حين عاد خزعل من نفيه في الأهواز بعد حول كامل حرصَ مسعود على أن يكون أوّل مستقبليه.. احتضنه بقوّة. قال خزعل:” سمعتُ أنكَ غنيتَ لي أغنية، أريد سماعها منك الآن”. عاد مسعود لاحتضان أبو طويرة، ألقى برأسه على كتفه، وعلى ضجيج الرائحة المنبعثة من شطفة خزعل وعباءته شعر مسعود كأنه ينعس، ثم ينام وهو يردّد كما في حلمٍ عذبٍ:

يا أبو طويرة أريد وياك… أنا ويّاك اخذني..