هل أوشكت دور العرض الكلاسيكية على الأفول؟ سينما المول تحاكي الأكلات السريعة!
نورا خالد – تصوير/ علي الغرباوي
دخلت السينما الناطقة إلى بغداد بداية الثلاثينيات، بعرض الفيلم الغنائي (ملك الموسيقى) في سينما (الوطني) عام 1931. ومنذ ذلك الحين أصبح للسينما روادها، ما ساعد في إنشاء دور عرض سينمائية جديدة في بغداد آنذاك. ومع أن العراق كان من أوائل دول المنطقة في هذا المجال، حين كانت تعرض في (سينماته) أحدث الأفلام العالمية، إلا أنه بمرور الزمن تحولت تلك (السينمات) إلى مخازن ومحال تجارية، وبذلك فقد العراق واحداً من أهم طقوسه الفنية.
حول أفول دور السينما وتأثيره على صناعة الأفلام، التقت “الشبكة العراقية” عدداً من المختصين في هذا المجال، كان منهم الناقد السينمائي علي حمود الحسن الذي حدثنا قائلاً:
مآلات محزنة
“لا أحد كان يتوقع ما آلت اليه سينمات بغداد الحالية، إذ لم تتبق منها إلا بضع بنايات تنتظر موتها التراجيدي المعلن، واختفت صالات سمير اميس، وأطلس، والخيام، وغرناطة، والزوراء، وريكس، وروكسي، وسينما بغداد في علاوي الحلة، هذه السينمات الأيقونية، التي كان من الممكن الحفاظ عليها وإدامة بناياتها وأجهزة عرضها، لتكون معالم لمدينة بغداد والاستفادة منها في المهرجانات الدولية والمحلية.”
يضيف الحسن قائلا إن “معظم البلدان تحرص على الاهتمام بمعالمها وديمومتها والحفاظ عليها من الهدم والإزالة وتغيير الصفة، لكن هذا الانتهاك لا تقابله لدينا ممانعة من الجهات الحكومية المعنية، أو منظمات المجتمع المدني، أو حتى المنابر الإعلامية، عدا أصوات مبحوحة هنا وهناك، لا تسمع أصلاً، لإيقاف هذا التجاوز، الذي يمس الذاكرة الجمعية الثقافية للوطن.” مضيفاً أن “عصر دور العرض الكلاسيكية قد أوشك على الغروب، ليس في بلدنا فحسب، إنما في كل العالم، بعد دخول الكاميرا الرقمية والاستغناء عن الفيلم (السلويد)، إذ لم تعد صالات السينما التقليدية تستوعب الأعداد الانفجارية من الأفلام بعد دخول التقنيات الرقمية، ما جعل المنتجين يعمدون إلى بناء صالات صغيرة مجهزة بشاشات رقمية، وكذلك أجهزة العرض. وقد نجحت التجربة في كل أنحاء العالم، وصار الإقبال عليها كبيراً، ولاسيما من الشباب، وهذا ما حصل في العراق، إذ جرى إنشاء أول سينما رقمية في نادي الصيد عام 2011، ثم وصلت إلى أكثر من عشر سينمات في بغداد والمحافظات، معظم روادها من الشابات والشباب.”
تغيرات جذرية
المنتج والمخرج السينمائي محمد الغضبان أوضح أن “مجمل المتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية في العراق خلال آخر ٥٠ سنة، أدت إلى تغيرات جذرية في أسلوب العيش والعمل والتعامل مع المفردات الجديدة في عصر الإنترنت والهاتف المحمول، وغيرها من التحسينات الرقمية التي لم يألفها المواطن العراقي سابقاً. هذا التأثير انسحب إلى منطقة السينما وصناعة الأفلام، إذ إن سينما المول التي انتشرت باتت حلاً مثالياً للتواصل بين المشاهد والأفلام، إذ لا توجد مساحة لعرض الأفلام قبل العام ٢٠١٠، وهو شيء طبيعي -نوعاً ما- بحكم التغيير السياسي والاجتماعي الذي حدث، وعدم الاستقرار الأمني، وغير ذلك من الأسباب.”
يتابع الغضبان بالقول إن “السينمات القديمة لم تعد تواكب متطلبات العصر، ولا متطلبات الجيل الجديد الذين ترعرعوا في أحضان الصورة الرقمية، وشاشات الهواتف المحمولة، وشاشات الحواسيب، وغيرها من الشاشات الصغيرة، التي تدعوهم دوماً إلى المزيد، وللرغبة الجامحة في الكثير- الفائق- اللامتناهي، هذا يحيلنا إلى نقطة أكثر أهمية في الصراع بين السينما القديمة وسينما المولات الجديدة، هو الصراع بين صالة السينما بشكل عام والمنصات الرقمية. بالإضافة الى مواقع التواصل الاجتماعي. عالمياً، يبدو هذا الصراع واضحاً، وهنالك العديد من الصالات في أوربا مثلاً أعلنت الإقفال لقلة حضور الجمهور، الذي تحول من منطقة الفرجة الجماعية إلى الفرجة الفردية، والانعزال، إنه جمهور ما بعد الحداثة، جمهور الثورة الصناعية الرابعة، جمهور عصر الذكاء الاصطناعي والإنترنت الفائق، جمهور السرعة وما بعدها.”
وأشار الغضبان إلى أن “تأثير انحسار السينما القديمة في العراق على صناعة الفيلم يكاد يكون غير ملموس، لأن الصناعة غير موجودة أصلاً، إن صح التعبير.” ويتساءل الغضبان: “لماذا نرغب دائماً، حتى في دراساتنا، أن نعود إلى الماضي؟ فالحنين دوماً إلى الماضي والتغني بتاريخنا، في بعض الأحيان، يجعلنا لا نرى الحاضر، ولا نرغب بالاستعداد للمستقبل، الذي يتسارع بشكل لا يمكن السيطرة عليه، لأنه مستقبل فائق السرعة والتغير والتحول والتطور والنمو، أين نحن من هذا النمو والتغير والتحول على مستوى صناعة السينما وإنتاج الأفلام وصناعة الصورة البصرية بشكل عام؟ إذ تشير الدراسات إلى أننا الان نغوص بعمق في عصر (ما بعد السينما)، إذ تعيش السينما حالياً انتقالاً متعدد الأوجه من وسيط سينمائي تقليدي في القرن العشرين إلى نظام وسائط متعددة في القرن الحادي والعشرين.”
مشاهدة بالصدفة
المخرجة السينمائية الدكتورة سيماء سمير كان لها رأي يخالف رأي الغضبان، إذ إنها تعد “مشاهدة الأفلام في صالات العرض هي ثقافة بحد ذاتها، وممارسات طقوسية تحدد مدى عمق الممارسة الحضارية في أي بلد تكون فيه، وسينما المولات، أو الحديثة، لم تثبت سوى أنها مشاهدة بالصدفة تحاكي الأكلات السريعة، كما أنها لا تؤسس لصناعة سينما حقيقية خاصة في تسويق الأفلام، وهي المرحلة الأهم في الصناعة، إذ إن عرض الأفلام المحلية يخضع الآن لمزاج شركة سينما بغداد، ما لا يوفر الفرص لخلق المنافسة.”