هل تحظى بغداد بفن حضري لائق..؟
استطلاع : زياد جسام – تصوير: يوسف مهدي /
النُصُب والتماثيل الفنية، في الساحات والشوارع والفضاءات المفتوحة، تجسد واحدة من الفنون البصرية ثلاثية الأبعاد، ولها أهمية كبيرة في تجميل الأمكنة، ليس لكونها كتلاً برونزية أو كونكريتية فحسب، بل لأنها بمثابة ذاكرة الناس وتاريخ المكان، وهذا ما تسعى إليه أغلب دول العالم في صياغة جماليات المدينة وتنظيم الفراغ فيها وتجسيد تراثها ورموزها.
أما في العراق، وبعد عام 2003 تحديداً، فقد وضعت نُصب وتماثيل في بغداد والمحافظات أثارت حفيظة كثير من الفنانين والنقاد، بل حتى أبسط المواطنين، لسوء اختيارها وتنفيذها وأماكنها غير المدروسة، إذ وضعت نُصب في ساحات وشوارع لا تنسجم مع تاريخ العراق المليء بالفن والإبداع، إذ أن للعراق شأنه ومكانته بين الدول العربية والعالمية، لما يمتاز به من عمق حضاري وثقافي. فجميع النُصب التذكارية، سواء نصب الحرية أم الجندي المجهول أم الرصافي، وغيرها، أصبحت اليوم جزءاً من الهوية الوطنية العراقية. لهذا اتخذت أمانة بغداد مؤخراً قرارات جديدة بهذا الشأن، من أهمها رفع النُصب المصنوعة من مادة (الفايبركلاس) من ساحات العاصمة بغداد، وتشكيل لجنة متخصصة لتنفيذ هذا القرار. خطوة مهمة مع أنها جاءت متأخرة، حسب رأي المتخصصين الذين تحدثوا لـ”مجلة الشبكة” عبر هذا الاستطلاع:
هوية وطنية
المهندسة المعمارية (ميسون الدملوجي)، التي تشغل حالياً منصب مستشارة رئيس الجمهورية للثقافة والإعمار، تحدثت عن هذا الموضوع قائلة: بداية أرى أن من الضروري الإشارة إلى اهتمام أهالي بغداد الكبير بالنُصب والتماثيل في مدينتهم، واعتزازهم بها كعنصر حضري يساعد في ترسيخ خصوصيتهم المحلية وهويتهم الوطنية. ومن هذا المنطلق أرى أن عملية ترصين النصب والتماثيل في بغداد ينبغي أن تحظى بنقاش واسع يشترك فيه الأهالي والمثقفون والفنانون والمعماريون مع إدارة العاصمة متمثلة بأمانة بغداد.
أما عن النصب المصنوعة من مادة الألياف الزجاجية (الفايبر كلاس) فقالت الدملوجي: مادة (الفايبركلاس) التي بدأ استخدامها بالآونة الأخيرة في صناعة التماثيل هي مادة مصنّعة وحديثة لا ترقى إلى مادة البرونز التي تستخدم منذ مئات السنين في صناعة التماثيل والمنحوتات، لكنها في الوقت ذاته أقل كلفة من البرونز وتتيح صناعة عدد أكبر من المنحوتات بكلف معتدلة الثمن.
في السنوات الأخيرة وافقت أمانة بغداد على استخدام هذه المادة في صناعة المنحوتات ووضعها في الشوارع والتقاطعات، وهذا شجع كثيراً من الفنانين على تقديم أعمال باستخدامها، لسهولة الحصول على تمويل لإنجازها، مع علم الفنان أن عمر (الفايبركلاس) الافتراضي يقل عن عمر البرونز، وأن المادة الاخيرة هي الأفضل لو أتيح التمويل الكافي.
وعن قرار أمانة بغداد بإزالة المنحوتات المصنوعة من (الفايبركلاس) قالت: إن هذا القرار جاء تصحيحاً لقرار خاطئ كانت قد اتخذته الأمانة سابقاً.” وأضافت: “مؤسفٌ أن القرار الذي اتخذته الأمانة لا يوضّح ماذا سيكون بديل أعمال (الفايبركلاس)، هل ستبقى التقاطعات عارية من أي عمل فني بعد إزالة العمل الأصلي؟ هل ستخصص الأمانة تمويلاً كافياً للفنانين لصب الأعمال وتحويلها إلى البرونز؟ أم أنها ستكلف فنانين مختلفين بأعمال أخرى؟
وعن موضوع ذي صلة تحدثت الدملوجي قائلة: رفعت أمانة بغداد في الأيام الأخيرة عمل (سيدة بغداد) للفنان الكبير محمد غني حكمت عن قاعدته الأصلية، ووضعته فوق نصب الفنان عباس غريب في تقاطع المتحف، الذي هو أصلاً مركَّب على قاعدة مخصصة لنصب (المسيرة) للفنان خالد الرحال، الذي أزالته لجنة متخصصة بإزالة أعمال النظام السابق. إن مثل هذه الممارسة العشوائية تدعو للقلق من استمرار مسلسل تخريب النُصب والتماثيل البغدادية، وإن كان هذا التخريب بنيّة حسنة، كما أن كثيراً من الأعمال المصنوعة من مادة البرونز والموزعة في شوارع بغداد تحتاج الى إعادة نظر، وإعادة تقييم قيمتها الفنية أو الرسالة التي يحملها العمل. أتمنى على أمانة بغداد أن لا تنفرد باتخاذ القرار، وإنما عليها أن تُشرك المجتمع في ذلك.
رؤية مشتركة
اما الفنان النحات (طه وهيب)، مدير مصهر البرونز التابع إلى وزارة الثقافة، فقد تحدث عن أهمية قرار الأمانة، مشترطاً أن يكون ذلك بالتنسيق مع وزارة الثقافة، قائلاً: هناك أماكن كثيرة في بغداد يمكن توظيفها للأعمال الجديدة التي تحصل على موافقات من دائرة الفنون في وزارة الثقافة، بالتعاون مع أمانة بغداد والبلديات في المحافظات، وأن تكون مسؤولية وزارة الثقافة إبداء الرأي الفني والجمالي والمشورة في ذلك.
أما أمانة بغداد فإن لها دوراً في اختيار الأماكن والموافقات عليها، هذا هو المتعارف عليه منذ زمن طويل بالتنسيق مع الجهات صاحبة المشروع الممولة له، كل حسب تخصصه، إذ كانت أغلب الأعمال النحتية التي تقدم الى أمانة بغداد لغرض تنفيذها تمر بدائرة الفنون، وتشكَّل لجان مشتركة لذلك الغرض وتكون الرؤية والمسؤولية جماعيتين وليستا فرديتين.
وعن تمثال (سيدة بغداد) قال وهيب: إذا كان هناك رأي بأن مكان هذا التمثال غير مناسب، فيجب أن يُحوّل بكامله مع القاعدة الى المكان الذي يُتفق عليه عبر لجنة مشتركة ليحتفظ بخصوصيته ورؤيته الفنية التي اختارها الفنان، لا أن نضع عملاً فوق عمل آخر بذريعة أنه (يرهم)، إذ ستكون هناك رؤيتان، أو أكثر، قد تداخلتا في صناعة عمل فني آخر غير الذي تصوره الفنانون، ولاسيما الراحلين منهم، فهذا تاريخ مرحلة وتاريخ فن ومسيرة فنان، وذلك من أجل بناء تاريخ وثقافة محسوبة الخطوات لبلد عريق مثل العراق.
مبادرة متأخرة
المعماري والأكاديمي (د.خالد السلطاني) حدثنا عن مبادرة أمانة العاصمة فقال: أرى في مبادرة أمانة بغداد الأخيرة الخاصة بإزالة التماثيل والنصب غير المطابقة للمواصفات الفنية والمصنوعة من مادة (الفايبركلاس) مبادرة مهمة جداً وضرورية، وأنا شخصياً من المؤيدين لها ولتحقيقها على أرض الواقع بسرعة وأن تشمل جميع مناطق العاصمة، ورغم انها أتت متأخرة فإني أحيّي كل من أسهم في إبداء الرأي فيها وفي تفعيلها.
والأمر الجيد أن ثمة (هيئة للرأي) تعقد جلساتها في أمانة بغداد مهمتها، كما يبدو، إصدار مثل تلك القرارات في متابعة المشهد البغدادي وإعادة تقييم مفرداته الفنية؛ وهي بادرة إدارية وفنية أراها مهمة. يذكّرني هذا الأمر بمنصب حكومي كان موجوداً حتى نهاية الثلاثينيات من عمر الدولة العراقية، باسم (معمار الحكومة)، مهمته تكمن في متابعة الأعمال المعمارية الكبرى، الحكومية على وجه الخصوص، بحيث تكون متطابقة مع الاشتراطات الفنية والقواعد المرعية التي كانت مثبتة ومعروفة للجميع، وأن تعطي موافقاتها للتنفيذ إذا ما كانت التصاميم مطابقة للمواصفات المرعية، كما أن تلك الدائرة كانت تُعدّ أيضاً تصاميم مشاريع الدولة المهمة، وكان ثمة مستوى مقبول وحتى عالٍ من الإنجاز المعماري.
وعن الخامات التي تستخدم في تنفيذ هذه النصب قال السلطاني: ليست ثمة حاجة للتذكير بأن (المواد) المشغولة بها نماذج تلك المفردات الفنية المعروضة في فضاءات العاصمة ينبغى أن تكون ذوات خاصية مستدامة، تتحمل طبيعة التلوث الذي تتصف به المدن المكتظة كبغداد، وأن يراعى في تصاميمها عدم الإكثار المفرط في التفاصيل، ليَسهُل تنظيفها وصيانتها، وأن تكون في أمكنة يمكن الوصول إليها بسهولة والتمتع برؤيتها. وقد آن الأوان، حسبما أرى، لأن نكف عن وضع التماثيل والنصب التذكارية في منتصف الساحات والميادين الحضرية، كما كان معمولاً به في الممارسة التخطيطية العالمية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأن نتفاعل مع التطورات الكبرى والمتغيرات التي شهدها الفضاء الحضري الحديث، والاستعاضة عن أواسط الساحات باللجوء الى خلق (جيوب) حضرية تنشأ وترتفع بها المفردات الفنية وتكون هي ومتلقيها في مأمن من أخطار شوارع المدينة. وعادة ما تكون تلك (الجيوب) حافلة بمفردات (أثاث) المدينة الحضري، التي يسهم حضورها في ترسيخ مزيد من الإحساس بالمتعة والابتهاج لدى مستخدميها من مواطني تلك المدن وضيوفها.