هوليوود ضد هوليوود

1٬220

علي رياض/

هل كان دالتون ترمبو يتخيل، قبل وفاته في الـ10 من أيلول عام 1976، أن هوليوود التي حاربته ستحتفي به وتسمح لثلاث شركات مستقلة ومتواضعة بإنتاج فيلمٍ يتحدث عنه، وأن تُدخل اسمه بشكل صريح هذه المرة إلى حفل الأوسكار؟

في الـ29 من تموز عام 1946 أصدر مالك مؤسسة هوليود ريبورتر وليام ويلكرسون، عرضاً تجارياً بعنوان “صوت لستالين”، يذكر فيه أسماء 11 سينمائياً متهماً بالتعاطف مع الشيوعية، عرفت بقائمة بيلي، أو قائمة بيلي السوداء، وكان ضمن القائمة دالتون ترمبو.

القائمة التي دعمها الرئيس الأميركي رونالد ريغن خلال قضية ديزني المتعلقة بحظر السينمائيين ومحركي الرسوم الشيوعيين وقائمة بيلي السوداء، وقال عنها كارل أف كوهن في كتابه “الصور المتحركة الممنوعة” إن “ريغن دعم حظر القائمة دون أن يعرف الأسماء التي احتوتها، ودون أن يتأكد إن كانوا شيوعيين فعلاً أم لا.”
ويتناول الفيلم معاناة ترمبو، أحد المتضررين من هذه القائمة، الذي لم يعد يحصل على شركات انتاج تتبنى سيناريوهاته، حتى لجأ إلى الكتابة باسم مستعار، وفاز بالأوسكار باسم مستعار. وعلى الرغم من تواضع انتاج الفيلم، إلا أن براين كارنستن بطل المسلسل الشهير “بريكنغ باد” والذي أدى دور السيناريست ترمبو حصل على ترشيح للأوسكار عن فئة أفضل ممثل رئيسي.

وربما يختصر مشهد جلوس ترمبو مع باقي أفراد عائلته، وهو يتابع حفل الأوسكار من غرفة متواضعة، ويشهد فوز فيلمه (سبارتكوس) بالأوسكار عن فئة أفضل سيناريو، تحت اسم مستعار، ويقفز مع العائلة فرحاً رغم أن الجائزة لن توضع على منضدة جوائزه، ربما يختصر ذلك حكاية ترمبو مع إجراءات هوليود والولايات المتحدة القمعية ضده.
القائمة السوداء والتي اتسعت كثيراً فيما بعد، وأصبحت أشبه بوصمة عار في تاريخ حرية الرأي والاعتقاد في أميركا، أنجبت العديد من السينمائيين المعارضين للسياسة الأميركية، التي لا تخفت نبرة التبجيل الهوليودية في تلميعها كل عام، لتخلق حرب هوليود ضد نفسها. ومن هذه الأسماء المخرج الأميركي أوليفر ستون، ذو الميول اليسارية، والأعمال الجدلية، التي تناولت حرب فيتنام وحياة رؤساء أميركيين وعميل في المخابرات الأميركية.
ستون الحائز على ثلاثة جوائز أوسكار، اثنتان عن فئة أفضل مخرج للفيلمين “بورن إن 4 جولاي (عيد الاستقلال الاميركي)” و”بلاتون”، وهما فيلمان يتناولان حرب فيتنام والجوانب الأخلاقية لها، وجائزة ثالثة وهي الأولى له عن كتابته لفيلم “ميدنايت إكسبرس”، كان مقاتلاً في فيتنام، وحائزاً على نجمة الشهامة البرونزية، لكنه رغم ذلك لا يحظى بمحبة هوليود، وكان فيلمه الأخير ضربة قاسية على مكانته السينمائية في أميركا.

عام 2016 كتب ستون وأخرج فيلماً عن عميل الـcia الأميركي إدوارد سنودن، الذي كان مختصاً بتنكلوجيا الحواسيب والشبكات، وانشق عن جهاز المخابرات الأميركي ليعلن عن واحدة من أكبر فضائح الألفية الثالثة، هي أن كاميرات الهواتف النقالة والحواسيب وأجهزة التقاط الصوت فيها، تقع تحت رحمة جهاز المخابرات الأميركي وباقي الأجهزة الاستخبارية الكبرى، وأن الخصوصية في شبكات الإنترنت تكاد تكون منعدمة، وأن حجة الإرهاب قد تسمح لعميل مخابرات شبق أن يتفرج على زوجين يتضاجعان في بيتهما.

كان فيلم سنودن والذي حظي بمعدل تقييم 61% من نقاد موقع روتن توميتو السينمائي الشهير، تحفة فنية كما أعتقد. يبدأ الفيلم بلقطة مقربة على يد شخص لم نكن بعد نعرف من هو، يدوّر مكعب روبيك بطريقة متوترة وعالية المهارة والدقة، لنعرف بعد دقائق أن هذا هو سنودن، والذي لعب دوره الممثل جوزيف جوردن لوفيت.

وعندما تنظر للوفيت، وأنت متابع لأفلامه السابقة، تمر بك لحظة شك إن كان هذا هو نفس الممثل أم شبيه له، فالملامح هي نفس الملامح، لكن عضلات الوجه، ونظرة العين والصوت، كل شيء فيه يمكن نسبه لشخص آخر، بطريقة تذكر بفيليب سيمور هوفمان وأدائه الرائع في فيلم كابوتي، الذي حصل على الأوسكار عنه.

لوفيت في الفيلم، لم يكن عميل المخابرات وخبير الاتصالات الذي أثار حنق أميركا وأطلق على عينها المتلصصة تحت السراويل الداخلية لسكان العالم بأكمله سهما، بل كان سنودن من كل زواياه؛ العاشق، الوطني، الشكاك، والعبقري الذي يعجز عن اخفاء عينين حزينتين خلف نظارته الطبية السميكة.
في تلك اللحظة لم تكن تهمني حقيقة سنودن الأخلاقية ولا دوافعه. كانت الصورة التي وصلتني، كمية الجمال التي حملتها الأعمال الفوتوغرافية لحبيبته بالأسود والأبيض، أول الفيلم، هي المهمة. وكانت أصابعه المنسابة برشاقة على مكعب روبك، وهي تراقص وجوهه الملونة، وعضلاته المفتولة إلى حد ما وهي تنقلب عليه في نوبتي صرع أصابتاه في الفيلم ما يمرر لعينيَّ جمال السينما، ولن أنسى وجه سنودن (الحقيقي وليس الممثل) في آخر الفيلم، ترشقه الشمس بالأمان، ويأبى وجهه الخروج من بركة القلق، أو السماح لدفقات الضوء بإزالة الحزن العميق عن عينيه، كنغمة ختامية رائعة لتحفة أوليفر ستون.

على أية حال، في السنتين الأخيرتين، صارت لهوليود أكثر من حرب لتخوضها، ليست مع أو ضد السياسة الأميركية فحسب، بل حروب داخل المجتمع الأميركي نفسه. ورغم نمطية قضايا مثل العنصرية الجندرية أو عنصرية اللون في السينما الأميركية، لكن شكل الصراع بدا أوضح في حفلات توزيع جائزة الأوسكار. نعم ربما تكون هوليود حكومة رديفة لتصدير السياسات الأميركية إلى الخارج، لكن الأمر المثير أن هوليود تنقسم دائما، وتخوض حرباً ضد نفسها.