وهج الأعالي.. ظلمة الهاوية قراءة في مشهد الأغنية العراقية بين أمسها ويومها

830

كاظم غيلان /

حاولت مرة، ومن باب البحث والتعرف على الجذور الحضارية للغناء العراقي، فسألت الصديق الشاعر والباحث في قضايا الأديان والحضارات د. خزعل الماجدي، وكان حينها يعد لرسالة الدكتوراه، فأخبرني بأنه وجّه ذات السؤال لأستاذه الذي كان يشرف على رسالته في الحضارة السومرية والذي نسيت اسمه للأسف الشديد لمعرفة مايدلنا على بقايا الغناء السومري.. يقول الماجدي: نصحني الأستاذ بسماع صوت الفنان (نسيم عودة) وكان وقتها على قيد الحياة، بل ولحسن المصادفة كان معنا في ذات الحافلة التي تقلنا معاً لحضور فعاليات ملتقى ميسان الإبداعي وبين ساعة وأخرى يتهادى لأسماعنا صوته الشجي، بينما كان معنا في المقاعد الأخيرة من الحافلة الفنانون كريم منصور وعبد فلك والشاعر حميد قاسم.
عبد الوهاب والأغنية العراقية
هذه واحدة من إشارات تاريخية تدلنا على ذلك العمق الحضاري الذي امتاز به الغناء العراقي عن سواه من الغناء العربي، ولذا كان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب محقاً يوم أشار الى “أن مجمل الغناء العربي يدور في فلك الأغنية المصرية باستثناء الغناء العراقي فهو يدور في فلك نفسه وحده.”
هذا المسار الذي يمتد من ذلك العمق القصي المثقل برموز ومثابات باذخة أنتجها الوجدان الجمعي الممتزج بأحزان وأوجاع أبناء الماء والطين وأنين القصب الذي جلعوا منه نايات تطلق آهاتها التي تقطع القلوب من أنياطها، وبعد كل ما أنتجه من جماليات أعطتها الطاقات الكبيرة من أصوات وملحنين وشعراء كيف ينتهي به السبيل لما بتنا نسمعه من كل ماهو بذيء كـ( بسبسميو، العكربة، صديقي باك محفظتي، إلك ونه، وأغاني الآبار والخالات … والخ).
مدنية وعبقرية واكتشافات
عملت الأغنية العراقية وعبر طاقات لحنية وصوتية فضلاً عن عدد من شعراء مبدعين على تشذيب نفسها خلال حقبتي الخمسينات والستينات وبما ما أنجزته من مقتربات مدينية مع أن الضفة الأخرى، وأعني الأغنية الريفية، كانت ممسكة بقوتها وأصالتها ممثلة بداخل حسن وناصر حكيم وحضيري أبو عزيز، هذه المدنية ألتي أعنيها كانت بيئية خالصة وهكذا كانت بغداد ترتدي ثيابها الفاتنه من خلالها ممثلة بأصوات (رضا علي، مائدة نزهت، داود العاني، أحلام وهبي، عفيفة أسكندر وآخرين) ممن رسخوا قيم المدينة النادرة لتلك الحقبة حتى عاشت في ذاكرة الناس ليومنا هذا وفي أجواء صافية هي الأخرى عبر ماراثون خال من الأنانيات الضيقة بحكم ما كانت تمليه الحياة وتقاليدها وقتذاك وما تتطلبه طموحات تلك الأجيال من وعي لأجل تأسيس هوية وطنية حقيقية للمجتمع بما يمليه الغناء بوصفه غذاءً روحياً دسماً للإنسان، وبعيداً عن ضجيج السياسة وإيقاعاتها الصاخبة برغم وجود صراع تياراتها إلا أنها بقيت بعيدة عن هذا الفن العريق وسائر الفنون الأخرى.
تلتها واحدة من أبهى حقب التاريخ العراقي والتي هي العقد السبعيني الباهر الذي شهد طفرات وانعطافات حادة مذهلة أسست مشروع الحداثة الأروع في تاريخ الأغنية العراقية، فكانت بحق حقبة أعطت من خلالها عبقرية الراحل طالب القرغولي أبرزمنجز لافت (البنفسج) لمظفر النواب ألذي لم يلتقِه وقتها إنما راح وبحكم اجتهاده يضع لحناً لقصيدة منشورة في واحدة من الصحف ليمنحها لصوت ياس خضر فينقله من محيطه الأول الممثل بـ(الهدل وأبو زركة).
وبالمقابل تفتقت ذهنية كوكب حمزة الذي مارس مكتشفاته لأصوات كبيرة فكانت (الطيور الطايرة) بصوت سعدون جابر مثلما راح يتعامل مع كتابات شعراء نادرية كـ (زهير الدجيلي، أبو سرحان، كاظم الركابي، كامل العامري.. وآخرين) فكانت (ينجمة ، ابنادم، الكنطرة ابعيدة ) بينما راح محسن فرحان هو الآخر يتلقف لنا (غريبة الروح) ليمنحها وهجاً كبيراً.
إن ذكر الأسماء هنا لايعني محاولة لإنكار أو تغييب طاقات كبيرة كان ولم يزل لحضورها بريقه الخاص، إنما أشرت لركيزتين في اللحنية العراقية كان الفضل لها في السبق الذي تحقق.
حروب وضحايا وانفلات
لايمكن لأي بلد يشهد حرباً أن لا يدب الخراب في كل مفاصله، فكيف ببلد يخوضها لثماني سنوات تليها مغامرة أخرى في غزو دفع ضريبته بحصار أطبق على البشر والحجر، وهل الفنان في معزل عن مشهد كهذا؟
هذا السؤال لن يجد إجابته الشافية، بل يجد الأقسى والفاجعة الكبرى لما حل بمشهد الغناء العراقي الذي بلغ ذروته يوم أقدم ابن رئيس نظام القمع المعتوه لتأسيس قناته السيئة الصيت(الشباب) وراح يفتح الأبواب على مصاريعها لكل ماهو نشاز وبذيء دونما دراسة ولا حتى أدنى درجة لاحترام ذائقة الناس، الأمر الذي مهّد لامتداد الخراب ليومنا هذا بعد أن تحققت الفوضى الخلاقة التي جاء بها مشروع مابعد التغيير 2003 حتى أتاحت التكنولوجيا عبر توفر كل وسائلها تعميم الخراب وبأوسع مدياته.
موت الناقد
سألوا محمد عبد الوهاب بداية تراجع الأغنية المصرية وشيوع الأغاني الخفيفة عن السبب في ذلك، فأجاب بتلقائيته وبلهجته المصرية:
( فيه كان عندنا ناقد كبير وخطير، إلا أن هذا الناقد مات)
وحين سألوه عن اسم هذا الناقد باغتهم بإجابته قائلاً: (الجمهور)!
نعم.. الجمهور.. المتلقي تقع عليه المسؤولية الأكبر في شيوع ورواج النماذج المتردية إن لم يمارس مسؤوليته التربوبة في تهذيب ذائقة من حوله، فليس بالمؤسسات وحدها نتذرع في تبريراتنا اذا ماعلمنا أن الماكنة الإعلامية لم يعد بوسعها فعل السيطرة والتحكم في ظل كل هذا المتاح من فيسبوك وتويتر و… الخ فضلاً عن تناسل منتديات أدعياء احتضان الفن ورعايته من تجار القطاع الخاص.