من الكتب والروايات إلى “كشك” الأحلام صفا جمال.. “شحيحة أفراحنا ودكانها معزل”
رجاء الشجيري – تصوير: علي الغرباوي/
صفا جمال، التي ركلت المستحيل بما في روحها من تحدّ وطموح، تمتلك من الجمال والشجاعة والصبر الكثير، هي من مواليد عام 2000، هي البنت الصغرى لعائلتها لتتحول حياتها ودلالها بعد وفاة والدها عام ٢٠١٤ إلى منحى آخر، فتنتقل من عالمها الوردي الحالم الشديد البراءة إلى عالم أشد قساوة
واجهت مجتمعاً بأكمله بقوة إرادة ووعي وإصرار فاق عمرها بكثير، لتعيل نفسها ووالدتها عبر مشروعها الخاص الذي اشتهرت به.. مجلة “الشبكة العراقية” كانت حاضرة معها في (كشكها) بحي الكرادة لتسلط الضوء على قصة نجاحها وتميزها.
الشرارة…
كان والد صفا الحصن المنيع الذي حماها من كل سوء وأذى، لذا كانت تنظر إلى العالم بمنتهى البراءة، معتقدة أنه كما والدها الذي كان يرعاها ويدللها، إلى أن وافاه الأجل، فبدأت تفكر وهي طالبة معهد فنون جميلة كيف تؤمن رزقها هي ووالدتها دون طلب حاجة من أحد، فتركت الدراسة ولم تكملها بسبب ظروفها الخاصة، ثم انتقلت مع والدتها إلى أربيل وبقيت فيها خمس سنوات، عملت في مطاعم أربيل كمحاسبة، ثم توجهت إلى عالم الطبخ، كمساعدة شيف، وبدأت تتطور لتعمل في مطعم مشهور هناك وتختص في الأكلات البحرية (السي فود) التي كانت تتقنها بمهارة وحرفية عالية، إضافة لطبخ أنواع الرز المختلفة، وظلت في سرداب داخل المطعم لمدة سنتين في هذا التخصص والعمل، ثم لتقرر تركه بعد ذلك وتفكر باستقلاليتها ضمن عمل خاص بها.
تقول صفا جمال: بعد ثلاثة أشهر، وأنا جالسة في البيت، لم أكن أملك سوى ٥٠ ألف دينار فقط، هو كل المتبقي لدي، ما جعلني في حرج وتحد، لأذهب إلى السوق وأشتري المواد اللازمة لطبخ (جدرين دولمة) كي أبيعهما، والتقطت لهما صورة نشرتها في (كروبات) أربيل.. فبدأ الناس يراسلونني فوراً ويحجزون ويشترون، فنفدت (الدولمة)، وبدأت الطلبات تزداد والزبائن يكثرون وأصبح لدي سائق (دلفري) وبدأ الرزق يتسع وشهرتي تكبر. بعدها اشتريت (عربة) أصبحت هي مصدر رزقي، كنت أصورها أيضاً مع الأكل الذي أطبخه. الانتشار أخذ يزداد، والمتابعون كذلك، وهكذا كنت أعمل صباحاً في بوفيه مفتوح، وعصراً أفتتح الكشك الخاص بي.
العودة إلى بغداد
مع بداية السنة الجديدة قررت صفا العودة إلى بغداد وبيت الأهل مع أمها لتفتتح كشكها المميز من (جدر الدولمة) والأكلات الأخرى في الكرادة شارع العطار، حيث نحن معها اليوم فيه، نشاهد إقبال وتوافد الناس والتزاحم الشديد، ولاسيما بعد انتشار مقطع مصور لأحد المشاهير في مواقع التواصل الاجتماعي عندما صورها وشوق الناس (لدولمتها). لم أستطع أن أشتري طبقاً منها بسبب الزحام، فانتظرت، ولم يتبق إلا طبق (برياني) أخير أعطتني إياه معتذرة عن نفاد الدولمة وورق العنب، فإذا بامرأة وطفلها صاحب الأربع سنوات يأتيان إلى الكشك والطفل متلهف، لتخبره أن الأكل قد نفد، فتنهال دموعه وتخبرنا أمه أنه لم يفطر ولم يتناول الغداء بسبب رؤيته لأكلك في المنشور المصور الذي انتشر، فقرر أن يأتي ويأكل من أطباق صفا. نظرت إليه وأعطيته طبقي ليأكله وتكتمل سعادته.. هذا المشهد للطفل (مرتضى) تلاه كثير من الأطفال والعائلات الذين استمروا بالقدوم طلباً لطبخها بعد نفاده، لتضيف صفا مبتسمة: الحمد لله لم يمض على وجودي هنا في مكاني هذا سوى شهر ونصف الشهر فقط، لكن شهرتي بالدولمة سبقتني والرزق وفير والحمد لله.
المكتبة والكتب
“شحيحه افراحنا ودكانها معزل”
هكذا بدأت مع صفا لأني كنت أرى ترديدها في صفحتها على الفيس أبيات عريان السيد خلف وكاظم اسماعيل الكاطع، لأسالها عن علاقتها بالشعر والمكتبة التي رأيت صورتها في غرفتها، لتجيب صفا: إن شاء الله “جثيرة افراحنا ودكانها امفتح”، بالخير والطموح والرزق، نعم أحب الشعر كثيراً، الشعبي والفصيح، واقرأ للشعراء الكبار، أنا ومنذ كان عمري ست سنوات تربيت على قراءة الكتب التي كان يختارها والدي ويشتريها لي من شارع المتنبي، قصص الأطفال كنت أحبها، ومع نهاية قراءة كل قصة وكتاب كان يجلب لي آخر، الى أن كبرت وأنا مواظبة على قراءتي للروايات العالمية ومختلف الكتب العامة، وتستهويني جداً كتب التاريخ والآثار والفلسفة، وهكذا كبرت مكتبتي التي أعتز بها وأتمنى أن أكمل دراستي في تخصص التراث لحبي الشديد له.
أمنيات
صفا والأحلام والمعجزات، هل تؤمنين بها؟
نعم كثيراً،
ماذا إذن لو خرجت الآن بعد حديثنا ووجدت مصباح علاء الدين وخرج لك المارد لتطلبي ثلاث أمنيات، ماذا عنها؟
أمنيتي الأولى أن يحفظ الله لي والدتي لأنها معنى وجودي وسر قوتي في هذه الحياة بعد والدي، لذا أتمنى بشكل إعجازي أن ترافقني طوال عمري، أمنيتي الثانية أن أكمل دراستي في كلية الإدارة والاقتصاد، وأن أكون سيدة أعمال، وأن أمتلك سلسلة مطاعم مع (ستاف) متكامل، وكذلك أن أدرس وأتخصص في التراث الى جانب العمل التجاري. الأمنية الثالثة هي أن أمتلك بيتي الخاص وسيارتي الخاصة..
الشارع والناس
سألنا صفا كيف تتعامل مع مضايقات الناس لها وما تتعرض له في الشارع لتجيب: شخصيتي كانت مزاجية وعصبية، وكنت أستفز وأتحسس لأبسط الأشياء، ولم أكن احتمل وجود أناس كثر وضجيجهم حولي، لكني خضت غماراً مختلفاً عن طبيعتي تماماً، فبدأت أمرن نفسي على التحمل والتغاضي وعدم السماع والتأثر بأية سلبية تواجهني، فجعلت رزقي الطاقة الإيجابية العظمى، محبة الناس منحتني ابتسامة أمل وفرح مستمر رغم التعب والجهد، فصرت أعتز بصفا القوية، صاحبة الإرادة التي تحتكم إلى العقل والمنطق وحب الحياة، التي لا حدود لطموحها وأحلامها.