رجال الدفاع المدني.. الجنود المجهولون

1٬221

ريا عاصي /

إنقاذ حياة إنسان يتعرض للخطر، إسعاف شخص مصاب يمكن أن يفقد حياته، إعادة ما يمتلكه من مال والحفاظ عليه، هي من أسمى الأعمال التي يمكن أن ينجزها أي إنسان في حياته، فما بالك بمن كان هذا عملهم اليومي الذي يكسبون به أرزاقهم، معرّضين أنفسهم وأجسادهم للإصابة والإرهاق في سبيل إنقاذ روح أو تخليص إنسان عالق وسط حطام أو حريق.
عمل أهم ما يميزه أن يكون متقناً للنهاية لأن لكل فرد منهم إمكانية أن لا يخطئ.. فالخطأ الوحيد يكلفه حياته.
“الشبكة” التقت مدير عام الدفاع المدني العراقي (اللواء كاظم بوهان) الذي حدثنا قائلاً:
مديرية الدفاع المدني العامة هي عائلة عراقية كبيرة همّها الأول هو كيفية الحفاظ على حياة المواطن العراقي ودرء الخطر عنه وحماية ممتلكاته من الضرر أياً كان مصدره سواء أكان من جراء حادث أو بفعل فاعل.
نضع نصب أعيننا، حين التوجه لأي موقع، أن هناك روحاً عالقة وأماً عراقية تنتظر نجاة ابنها وهذه الأم هي أمنا والابن هو ابننا، لذا نعمل بقلب واحد.
وأضاف: الدفاع المدني معني بشكل أساسي بالإطفاء والإنقاذ بنوعيه الخفيف والثقيل، ومعالجة القنابل غير المنفلقة، والتدخل لمعالجة الحوادث الكيمياوية والبايولوجية والإشعاعية، والعمليات الاستباقية والاحترازية الخاصة بإجراءات السلامة والكشوفات على جميع المشاريع في جميع القطاعات، وذلك بتكليف فرق كشف أول وكشف متابعة مرتين في السنة الواحدة لتأمين شروط السلامة في هذه الأبنية مثل الوزارات والمنشآت العامة لتلافي الحوادث المحتملة فيها وإنذارها للأخذ بملاحظات هذه الفرق.
ويبين اللواء أن مراكز الدفاع المدني في العراق، عدا إقليم كردستان، يبلغ عديدها 300 مركز منتشرة في أنحاء العراق، هذا العديد يزيد عند أحداث معينة مثل الزيارات المليونية أو حوادث الحرائق أو الفيضانات، ففي حينها تنتشر فرق إضافية وتتمركز قرب موقع الحدث، مهمتها توفير الحماية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
سألنا اللواء كاظم: في الآونة الأخيرة كثرت حرائق محاصيل الحنطة والشعير في محافظات مثل الموصل وصلاح الدين وكركوك، كما حصلت حوادث أخرى متفرقة في أسواق ومولات مثل بابل والنجف وكربلاء، ما موقف الدفاع المدني من ذلك فأجاب قائلاً:
سجلت مراكز الدفاع المدني 15 حادثاً متعمداً جنائياً من بين 210 حوادث في حرائق غطّت 500 ألف دونم من المحاصيل، علما أن الدفاع المدني أنقذ 420 ألف دونم من الحرق.
وأضاف أن حوادث الحرق أثناء الحصاد تحدث بشكل سنوي وعفوي بسبب ارتفاع درجات الحرارة وبسبب الإهمال، وأغلب الحوادث التي تسجل سنوياً بسبب الإهمال، لكن في هذا الموسم بلغت المساحة المزروعة بمحاصيل الحبوب 13 مليون دونم في عموم العراق لأول مرة، وأعلنت وزارة الزراعة عن قرب الاكتفاء الذاتي لكن مع الأسف تزايدت حوادث الحرائق بفعل فاعل هذه السنة عن السنوات التي سبقتها.
أما حرائق الأسواق فأغلبها بسبب الإهمال وذلك لعدم الالتزام بشروط السلامة الأمنية وارتفاع الحرارة وعشوائية مد الأسلاك من المولدات إلى المعامل ما يؤدي إلى اشتعال الحرائق، ولم تتوقف مراكزنا ساعة واحدة عن أداء عملها.
الإهمال وخرق القانون وتحقيق المراكز الأولى
القانون العراقي يفرض استحصال موافقات فرق الدفاع المدني عند إقامة المباني والمنشآت الجديدة، لكن للأسف الخلل الأكبر الذي نواجهه لا يكمن في البناء الجديد فقط، لكن في الإضافات التي تضاف الى بناء قديم، وأكبر مثال على ذلك منطقة الشورجة التي يتم في كل شبر منها خرق للسلامة العامة، فنلاحظ وجود العديد من طوابق (الساندويج بانال) المضافة بشكل عشوائي وتُخزَّن داخلها مواد قابلة للاشتعال، ناهيك عن وجود مولدات كهربائية على السطوح وتشابك أسلاك الكهرباء وعدم وجود ممرات سالكة وآمنة للطوارئ ولوصول قطعات الدفاع المدني من أجل الإخلاء والإطفاء تجعل المنطقة أشبه بالبركان.
حاولنا بشتى الطرق منع حدوث الحرائق وتكرارها في منطقة الشورجة، لكن للأسف أن القانون يتلاعب به التجار سعياً للكسب السريع إذ أنهم يفضلون دفع الغرامة التي يحددها القانون بمليون دينار حداً أعلى لمخالفة شروط السلامة، ما يجعل التاجر يدفعها ويستمر ببناء ما يمكن أن يحترق بلحظة واحدة تحت أي ظرف.
للحديث شجونٌ جمّة،.. كوادر الدفاع المدني لديها من الخبرة والعمل الميداني الكثير وذلك لكثرة المصائب التي مرت بالبلاد، فنحن كنا قد عملنا جنباً إلى جنب مع قطعات قواتنا البطلة في عمليات التحرير من دنس داعش وكنا السباقين في إجلاء الناس وتخليصهم من مخلفات الحرب، فصرنا مثلاً يحتذى به، فلأول مرة في تاريخ العراق يطلب حلف الناتو من العراق مراقباً دولياً لتقييم ممارسة، في سابقة هي الأولى من نوعها، اعترافاً من حلف الناتو بقدرة الدفاع المدني العراقي الذي احتل المرتبة الأولى بين فرق الدول العربية لعامين على التوالي، ونأمل أن نحصل عليها للعام الثالث بالرغم من قلّة تجهيزاتنا وتقادمها، إلا أن كوادر الدفاع المدني هم الأفضل والأشد حرصاً على سلامة العراق.
فبالرغم من عدم تعيين أي عنصر جديد منذ عام 2007، علماً أن أغلب كوادر الدفاع المدني تجاوزت أعمارهم الثلاثين، أغلبهم أصيب أثناء العمل، وقسم كبير منهم ما زال يعمل وهو يحمل ندوبَ حادث ما، ومعلوم للجميع أن فريق الدفاع المدني يجب أن يتحلى بلياقة بدنية عالية وأن يكون بين عناصره من الشباب، نحنُ نعاني من قلة التجهيزات وعدم تحديثها، اذ أن الدفاع المدني ما زال يستخدم عجلات من موديلات 2001 و 2003.
مناشدة
من منبركم هذا أناشد أصحاب القرار وذوي الشأن الى الالتفات لظاهرة يمكن أن تحدث في العراق، فكل المؤشرات تشير إلى أن العراق دخل الخط الزلزالي الذي بدأ يقترب من مراكز المدن والحدود والقصبات وإحدى هذه الهزات حدثت في جرف النصر، وناشدنا أصحاب القرار لإثراء وسائلنا من جهد هندسي وآليات لنكون مستعدين لما يمكن أن يحدث، اذ أننا ما زلنا نتحرك لحظياً مع الكارثة، فمن منبر مجلتكم أناشد الدوائر المعنية باتخاذ القرار والعمل على وضع خطة وتجديد المعدات والآليات لنكون على قدر المسؤولية.
السيد مدير العلاقات والإعلام (العقيد جودت عبد الرحمن داود) أوضح أن فرق الدفاع المدني الثلاثة الرئيسة تعمل جنباً إلى جنب في درء الخطر عن المواطن العراقي، فشعار الدفاع المدني يكمن في اختصار فرقهِ إلى (إطفاء، معالجة، إنقاذ).
فريق الإطفاء عمله واضح وهو إطفاء الحرائق وإنقاذ الأهالي وإخلاؤهم من مكان حدوث الحريق أو الزلزال أو التفجير، وحتى في الفيضانات عملت فرقنا على تخليص الأهالي من المسطحات المائية الناشئة في الأراضي نتيجة الغرق بعد الأمطار الغزيرة.
الفريق الثاني يعمل على معالجة القنابل غير المنفلقة من مخلفات الحروب.
اما فريقنا الثالث وهو فريق “السي بي آر أن” المعني بالاستجابة لحوادث الكوارث البايولوجية والاشعاعية والكيمياوية (Chemical, biological, radiological and nuclear defense CBRN) الذي يترأسه (العقيد محمود جاسم دلي)، وعلى الرغم من حداثة عمر الفريق الذي يبلغ ثلاثة أعوام فقط، في آخر نشرة للإنتربول الدولي وعلى وفق معايير وضعتها لجنة الإنتربول الدولية حاز العراق على المرتبة الرابعة في العالم بعد كوريا الثالثة وبريطانيا الثانية والولايات المتحدة الأولى، كما نال هذا الفريق كتاب شكر موجهاً الى رئاسة الدفاع المدني العراقي من بعثة الاتحاد الأوروبي المعنية بذات الشأن في عام 2018.
يسعى فريق الـ CBRN إلى إجراء المسح الميداني مع الفرق العاملة في الكشف عن القنابل غير المنفلقة ومع فرق أخرى لدى وزارات أخرى للكشف المبكر بما يمكن أن تحدثه الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية والإشعاع، كما يسعى أيضاً إلى نشر التوعية والتثقيف بمخاطر التلوث الإشعاعي والكيمياوي عن طريق عقد الندوات والمحاضرات داخل أروقة الوزارات والجامعات.
ومثلما أحرز هذا الفريق مركزاً مرموقاً بين مراكز العالم، فإن قسم الإعلام في الدفاع المدني أيضاً أحرز المركز الأول للأعوام 2007 و2015 و2017 إذ أحرز المركز الأول في إصدار البوسترات التوعوية والأفلام القصيرة التي أنتجتها لصالح فرق الدفاع المدني على مستوى البلدان العربية.
عن فريق معالجة الألغام والقنابل غير المنفلقة، التقينا( العقيد المعالج شهاب أحمد عبد) المعاون الفني للسيد المدير العام الذي يشرف على عمل أقسام الاتصالات والآليات والقنابل غير المنفلقة، فقال:
كما تعرفون أن العراق مرّ بالعديد من الحروب منذ ثمانينات القرن المنصرم، لكنّ أشدها كانت المعركة ضد داعش التي نجم عنها كثيرٌ من مخلفات الحرب التي تشمل قنابل وصواريخ غير منفلقة، علماً أن الألغام ليست من اختصاصنا فنحن نساعد في الدلالة على أمكنتها، إلا أن قوات الجيش هي التي تقوم بالتخلص منها، والمناطق الأشد تضرراً هي الجنوبية، فالبصرة تنوء بالعبء الأكبر من المخلفات وتحتاج عملاً متواصلاً لتخليصها من سرطان القنابل غير المنفلقة، ومن بعدها الشمالية والوسطى، وأضيفت إليها المناطق المحررة من سيطرة داعش، ولا بد من الإشارة إلى أن أجهزة معالجة القنابل قديمة نسبياً وعددها قليل لا يكفي لتغطية المحافظات الخمس عشرة التي نحن مسؤولون عنها. تقرير الأمم المتحدة عام 2008 أشار إلى وجود خمسين مليون مخلف حربي استطعنا معالجة مليون منها فقط بسبب قلة الأجهزة، بالرغم من وجود بيانات، وقد تشكل فريقنا منذ عام 1982 وقدمنا شهداء كثيرين أثناء العمل، وانخرط أفراد فرقنا وينخرطون في أفضل الدورات التدريبية، وهم متسلحون بالعلم والممارسة العملية، وبينما نحن نتحدث اليوم يوجد لدينا فريق يتلقى تدريباته في كمبوديا، لكن ما ينقصنا حقاً هي الأجهزة والمنتسبون الجدد.
أي خطأ للمعالج هو خطأ أخير، لأنه إما أن يُستشهد أو يصاب بجروح بليغة، وقد خدمت لأكثر من ثلاثين عاماً تلقى جسدي أثناءها العديد من الشظايا لا سيما عند تفجير القنابل العنقودية والكروية التي يمنع رفعها بل يجب تفجيرها في محلها فاخترقت جسمي شظايا كثيرة، لكني والحمد لله تلقيت العلاج وما زلت أعمل بكامل طاقتي وأسعى كل عام لتوفير ما نحتاجه من أجهزة ومعدات لتخليص جسد وطننا الكبير من هذه القنابل التي تعد عدواً كامناً.
الدروس المستنبطة
المنظمة الدولية للحماية المدنية في سويسرا تطلب من العراق لأول مرة أن يرسل خبراء لتدريب كوادر الدفاع المدني في باقي الدول التي تبلغ 156 دولة، إذ أن التجربة العراقية تُدرس في فرنسا وسويسرا، فمنذ أربعين سنة ونحن نستنبط خططاً للتدخل الميداني، وتوجد حوادث غير مسبوقة تستلزم اتخاذ قرار ميداني سريع
مثل حادثة غاز التاجي، حين كانت أربعة ملايين لتر من الغاز السائل تشتعل بعد انفجار إرهابي، وكان صوت الانفجار وكمية الدخان الناتج مهولين ومفزعين، حينها عمد رجال الدفاع المدني إلى تقسيم فرق الإطفاء وشرعوا في عملية تبريد بعضهم، اذ يدخل فريق ويبرده الفريق الآخر حتى وصلوا إلى مكان يُمكّنُهم من الاقتراب ومواجهة النيران المشتعلة وإخمادها، بينما الفرق الفرنسية حين واجهت حادثة مشابهة أقل حجماً عمدت إلى إخلاء المدينة وانتظار خمود النار وانطفائها تلقائياً، وتجربتنا العراقية تدرّس حالياً لتبين أن الساحة هي من تجعلك تبتكر الحل والإصرار على إيجاد الحلول.
الأهالي في الكرادة عانوا الأمرّين بفقدهم في ليلة أحد الأعياد 600 مواطن عراقي في حادث التفجير الإرهابي والحريق الذي تبعه، تقول إحدى الأمهات: حين هُرعت للشارع وأنا حافية رأيت بأم عيني قدوم رجال الدفاع المدني، ولم تكن سيارتا إطفاء كافيتين، وكانتا تذهبان بعد أن ينتهي مخزونهما من الماء للتزود بالماء من النهر لكنهما لم تتمكنا من ذلك لأن أجهزة الضخ توقفت. يومها فقدت ابناً وحفيداً ولا أسامح التجار الذين لم يفكروا بإنشاء سلّم طوارئ، لكني ممتنة لرجال الإطفاء الذين لم يفارقونا لحظة، وكانت دموعهم تسبق دموعنا لأننا فقدنا ابناءً في ذلك اليوم.
خرجت مع زميلي المصور من مركز الدفاع المدني في ساحة النسور وأنا كلي فخر بهؤلاء الرجال الأبطال، وحضرت في ذهني صورة أحد رجال الاطفاء الذي جلس على الأرض يبكي بحرقة في فاجعة ملجأ العامرية لأنهم لم يمدّوه بما يكفي من المعدات ليساعد بها الناس، من هنا نناشد الجهات المسؤولة: الدفاع المدني مؤسسة عراقية مخلصة تود خدمة بلدها، ضحّت وما زالت تضحّي لحمايتنا من الأخطار الطارئة، فأمدّوها بالأجهزة والمعدّات لأنها هي من سيواجه أية كارثة أو مصيبة أو حدث طارئ، لا سمح الله.