يدُ الجهل والفساد تطالُ تراث بغداد

1٬211

إياد عطية الخالدي /

بينما تعمل دول لاتمتلك مايمكن مقارنته بتراث بغداد العريق، ولاسيما مبانيها التي تذكّر بطرزها المعمارية الفريدة، حيث تلتقي فيها فنون مختلف الثقافات بعبق جمالها كواحدة من أجمل مدن الشرق لغاية العقدين الأخيرين من القرن الفائت قبل أن تطالها يد لاتعي قيمتها وأهمية معالمها وشواهدها وكنوزها التراثية التي لاتقدر بثمن، اذ تكاد أن تختفي تلك المباني العريقة في بلد أضاع قبل ذلك آثاره التي تعود أغلبها الى ماقبل ستة آلاف سنة قبل الميلاد.
وعلى الرغم من القوانين الرادعة التي سنّت منذ نشوء الدولة العراقية بهدف حماية تلك المباني من التجاوزات والتخريب، إلا أنها تحولت الى حبر على ورق أمام سيل الفساد الجارف الذي طال الحياة العراقية ولم ينجُ منه تراث او حضارة.
فقد تمكن الفساد من طمس جزء مهم من تاريخ بغداد بعد أن امتدت مخالبه الى مبانٍ شكل وجودها أثراً في حياة البغداديين وذاكرتهم، فيما كانت أمانة بغداد تستولي على بيوت أخرى تبيعها في مزاد “الاستثمار”، وهو عمل وصفه مجلس محافظة بغداد بغياب الرؤية لدى المسؤولين في أمانة بغداد الذين يعتقدون أن عملهم ينحصر بالخدمات البلدية.
فشل واضح
مع فشل الدولة في وضع يدها على مباني بغداد التراثية بهدف الحفاظ على ذاكرتها وتحويلها الى مراكز ثقافية، عمل أفراد على محاولة شراء هذه المنازل وترميمها والحفاظ على هويتها التراثية، لكن مع استمرار اللا مبالاة وأمام عجز مؤسسات ينهشها الفساد، فإن ماتبقى من مباني بغداد في طريقه الى الزوال أيضاً مالم ينهض المسؤولون بواجباتهم.
أمانة بغداد
يحمِّل رئيس لجنة الثقافة والسياحة في مجلس محافظة بغداد سعد المطلبي أمانة بغداد غياب الرؤية في فهم دورها، متوقعاً أن يستمر هذا الانحدار حتى يصل أمين لبغداد يدرك أن دوره ليس في تبليط الشوارع وإنشاء المجاري، وإنما يرتكز دوره على إعادة الألق الى بغداد.
أوضح المطلبي أن هنالك فارقاً واضحاً بين رؤية مجلس محافظة بغداد للتراث وأمانة بغداد التي، من المؤسف، تمتلك أغلب بيوت ومعالم بغداد التراثية، ولاسيما تلك التي تعرضت الى المحو وطمس الهوية. لافتاً الى أن المجلس أعاد إعمار العديد من مباني بغداد التراثية ولاسيما في شارع المتنبي وبيت رئيس الوزراء في العهد الملكي نوري سعيد والقشلة وتحويلها الى مراكز ثقافية تحتضن إبداعات العراقيين وملتقياتهم الفنية والثقافية.
مشروع كبير
ويقول رئيس لجنة الثقافة والسياحة إن محافظة بغداد وضعت التصاميم الأساسية وخصصت الأموال اللازمة لتمويل مشروع كبير يستهدف مركز العاصمة ويتضمن حماية تراثها وإعادة الألق لمعالمها وأسواقها وشواهدها واستثمار نهر دجلة، معرباً عن أسفه أن تتحول المباني التراثية التي تحظى بعناية الدول المتقدمة الى مشاريع لجلب المال، بالرغم من أن إعمار هذه البيوت ليس مكلفاً ولايحتاج الى مبالغ كبيرة.
ودعا المطلبي التجار العراقيبن الى الإسهام بالحفاظ على هوية بغداد وشراء بيوتها التراثية شريطة المحافظة عليها وأن يجري ترميمها بذات الطرز وبنفس المواد التي استخدمت في عمارتها، مؤكداً أن المجلس يدعم عملية بيع و إيجار البيوت الى أية جهة تحافظ عليها مادامت الحكومة لاتخصص ميزانية لشراء هذه البيوت، واعتبر المطلبي قيام أمانة بغداد بإزالة مباني ترميم تراثية استهانة بتراث بغداد وهو أمر محزن.
تجاوزات
لكن عملية استيلاء بعض المسؤولين على بيوت تراثية تحويلها الى واجهات ومقرات لأحزابهم أثارت غضب المدافعين عن تراث المدينة العريقة.
ووفقاً لمسوحات دائرة التراث العراقي، وهي الجهة المعنية بتوثيق المباني التراثية وإدارتها وحمايتها من التجاوزات، فإن هناك أكثر من5880 موقعاً تراثياً بضمنها 3571 موقعاً تتوزع بين بيت ومقهى وخان وحمام وقصر وتكية وكنيسة، لكن أغلبها أزيل او مهدد بالزوال.
وبحسب مسوحات أجرتها دائرة التراث، فإن هذه المباني صنفت ضمن قائمة المشيَّدات التراثية المهددة بالزوال بسبب ما لحق بها من دمار وخراب وتصدعات أدت الى فقدانها معماريتها وتاريخيتها، جراء إهمالها أو تأخر وتعطيل أعمال ترميمها وتأهيلها.
وفي الواقع فإن أغلبها تمتد أعمارها الى الفترة العثمانية المتأخرة وبداية القرن العشرين، وتقع أغلبها في قلب بغداد وأحيائها العتقية كشارع الرشيد والشورجة، فيما تعود ملكية نحو 80% منها كأملاك خاصة لعائلات ثرية وميسورة غادرت البلاد منذ زمن بعيد او هاجرت بعد عام 2003، تاركة وراءها ذلك الإرث الحضري في أيدي الشاغلين والحائزين المستغلين من مدراء او حراس.
لقد فقدت هذه المباني قيمتها المعمارية والزخرفية والهندسية وطابعها التأريخي بفعل ما طالها من تجاوزات ومخالفات بناء وإضافات لأروقة عشوائية واستعمالات واستغلالات فوضوية شوهت الهوية الثقافية لتلك الأبنية والبيوت وإفراغها من محتواها التراثي، وتحديداً المقاهي والخانات والحمّامات والتكيات والبيوت التراثية التي تحولت الى ورش ومحال ومعامل ومراكز تجارية وصناعية في ظاهرة تمثل شذوذاً في نظرة الدول الى تراثها الذي لايمكن مقارنته بكنوز بغداد ومعالمها وشواهدها.
معاناة متعددة الأوجه
يقول الدكتور إياد كاظم داود، مدير دائرة التراث العامة، إن دائرته تعيش معاناة متعددة الأوجة تعيق إتمام واجباتها، فلطالما كانت ملاكاتها تصطدم بملاك البيوت التراثية الذين لايرحبون بوجودها وهي تقوم بواجبتها في مسح وتدقيق ومتابعة البيوت والمعالم التراثية، فضلاً عن عدم تعاون الجهات التي تشغل وتستغل البيوت التراثية، لافتاً الى وجود تقاطعات بين قانون حماية التراث وقوانين الوقفين الشيعي والسنّي هو أمر يربك عملهم الذي تؤثر عليه قلة التخصيصات ونقص الكوادر.
ويؤكد د كاظم أن دائرة التراث العامة ماضية، رغم كل العقبات، بإجراءاتها المستندة الى تفعيل قانون الآثار المرقم 55 لسنة 2002 ولاسيما تلك المتعلقة بتوفير منح مالية لأصحاب العقارات لغرض ترميم بيوتهم التراثية، لكننا نواجه صعوبات بالغة في البيوت التي تقع في المناطق التجارية ولهذا نحتاج بالفعل الى تفعيل القانون بتحديد فقرة الإعفاء الضريبي للمواطنين الذين يرممون بيوتهم على نفقتهم الخاصة.
وأشار د. كاظم الى وجود لجان مشتركة مع الرئاسات الثلاث بهدف سن تشريعات تحمي مركز بغداد الحضاري ومناطقه التراثية وتطويرها، ولاسيما تلك البيوت المطلة على نهر دجلة.
بيت ساسون حسقيل
وقد أثار قيام أمانة بغداد بعمليات تهديم البيوت التراثية كمعهد الدراسات النغمية ومنزل مؤسس النظام المالي في العراق وأول وزير مالية في أول حكومة عراقية، حيث أعلنت أمانة بغداد منح المنزل لأحد المستثمرين بعد هدمه، وعدّته “غير تراثي”، بهدف تحويلها الى مواقع تجارية ما أثار غضب المعنيين بتراث المدينة العريقة معتبرين أن هذا العمل يؤكد على عدم أهلية المسؤولين في أمانة بغداد على فهم دورهم، فضلاً عن كونه اعتداءً على التراث والقوانين التي تحميه من جهة يقع الحفاظ على هذا التراث وتطويره في صميم عملها.
وفي هذا الصدد يؤكد مدير دائرة التراث العامة د. إياد كاظم داود أن دائرته أقامت دعوة قضائية ضد الجهة التي قامت بهدم بيت تراثي يعود الى أول وزير مالية عراقي هو السيد ساسون حسقيل، وأن الدائرة تتابع هذه الشكوى.
حرائق متعمدة
وتعاقب التشريعات النافذة التي تحمي المباني التراثية من الهدم والإزالة وتحافظ عليها من الأضرار، بالسجن مدداً لا تقل عن ست سنوات لكل من هدم وشوَّه متعمداً بناءً تراثياً، لكن عمليات الحرق والعبث والتشويه للبيوت التراثية مازالت متواصلة.
ويقول مدير دائرة التراث د. إياد كاظم داود إن مالكي العقارات التراثية يلجأون الى أساليب وصفها بـ “بالملتوية” لتهديم بيوتهم التراثية، ومن بينها حرق البيوت او إغراقها بالمياه لكي تتهدم فتسقط عنها الصفة التراثية. مشيراً الى أن دائرته تحرك ضد هؤلاء دعاوى قضائية تصل أحياناً الى إعادة البيت التراثي الى ماكان عليه قبل التخريب وفرض غرامات كبيرة.
لكن مصدراً ذا صلة بالعمل أكد لـ ” الشبكة العراقية” أن عمليات الحرق والتهديم الواسعة جرت وتجري بتواطؤ الجهات المعنية، بدليل أن تلك المباني حصلت على إجازة بناء بسلاسة وجرى استثمارها تجارياً إذ تناقصت أعداد البيوت التراثية في بغداد ولم يتبق منها أكثر من 200 بيت تراثي.
وأضاف: لم تعد مهمات الجهات المعنية بالرقابة رفع التجاوزات والمحاسبات القانونية بل تحولت الى عمليات لجني أموال السحت على حساب تخريب بغداد وآثارها وشوارعها، وهذا الأمر ليس من الصعب على أي مواطن بسيط أن يميزه، فما بالك بالمطلعين على عمل هذه الدوائر، ولاسيما أمانة بغداد.
الوزير الجديد
يقول الباحث في التراث والتاريخ سعد الخالدي إن “ماحدث لآثار العراق وتراثه الكبير يعد جريمة متكاملة الأبعاد ساهم فيها مجرمون ومهربون من دول مختلفة، لكن المحزن أن يشارك عراقيون معهم بينما مهمتهم الأساسية هي الحفاظ على هذا التراث الذي تتمنى أية دولة أن تمتلك بعضاً منه، وكباحث تاريخي مسؤول ليس بوسعي أن أجمِّل الحقيقة، فيد الفساد الحكومي هي اليد الأكثر تدميراً لتراث العراق لأنها منحت الفاسدين الغطاء لتنفيذ جرائمهم بحق آثار العراق وتراثه”.
ويوضح: من سوء حظ بغداد أنها لم تحظ بمسؤول يدرك قيمة كنوزها الأثرية التي بدلاً من هدمها وإزالتها لجني أموال بائسة، كان بالإمكان استثمارها لجني الأموال بشكل مستمر عبر ترميمها وتطويرها كونها معالم تفخر بها الأجيال وترنو اليها عيون السيّاح في بلد تمثل أرضه حكايات وأسراراً تحكي قصة تاريخ مدينة خلَّدها التاريخ.
وبيّن أن يد الفساد امتدت، بكل أسف، الى الآثار والتراث، فعندما يكون المسؤول فاسداً وجاهلاً في ذات الوقت، فلايمكننا ان نتوقع غير ماحدث لتراث بغداد في مناطق شوارع الرشيد والكفاح والكاظمية والكرادة ومنطقة الكفاح وغيرها من المناطق البغدادبة القديمة.
لكن مايبعث على الأمل هو أن وزير الثقافة عبد الأمير الحمداني هو رجل آثار وتراث وتربى وأمضى جزءاً من حياته في مدينة تعد من أهم مدن الحضارات وأقدمها، وهذا الوزير يدرك قيمة التراث ويعي أهميته.. نأمل أن نرى بصماته على واقع الآثار والتراث ولاسيما في بغداد والموصل، فقد تعرضت هاتان المدينتان الى جرائم بحق كنوزهما الآثارية والتراثية نفذتها في الموصل عصابات “داعش” الإجرامية وفي بغداد “دواعش الفساد” وهم الأكثر خطورة لأنهم يتسترون بالوظيفة ويمارسون الإساءة تحت غطاء يتحايل على الأنظمة والقوانين.
وفي الواقع فإن بغداد لطالما ابتليت بهذا النوع من العقول التي لاترى في الأثر سوى بناية من الطابوق او الآجر ولاتفهم معنى الاهتمام والحرص عليها، وهذا ما حدث حتى في زمن النظام السابق إذ كانت النظرة الى التراث ولاسيما العثماني نظرة جهل عادة مايربطها المسؤول بآيدليوجيته القومية دون ان يعي أنها في النهاية تراث بغداد وجزء أصيل وراسخ في ذاكرتها ولايمكن إخضاعه لأفكار تتعامل مع التراث الإنساني الذي تجتهد المنظمات العالمية في الحفاظ عليه، وتلك قصص حقيقية يمكن لمسها في أسلوب تعامل المسؤولين مع كنوز بغداد وأسرارها ومعالمها وشواهدها الحضارية. وقد أكد مسؤول ثقافي سابق أن العديد من البيوت التراثية ذات العمارة الفيكتورية والعثمانية قد جرى تهديمها إبان النظام السابق بذريعة أنها لا تنتمي الى الطراز المعماري العراقي بينما هي في الأساس جزء من تاريخ العراق.. أضاف هذا المسؤول أن بيوتاً تراثية، في المناطق التجارية خاصة، تم تهديمها بتواطؤ من مسؤولي أمانة بغداد ومالكيها في سنوات الحصار.
وتؤكد (مجلة الشبكة العراقية) أن عدم الاهتمام بالبيوت والشواخص التراثية بات أمراً ملاحظاً في كافة المحافظات العراقية، وأنها تشير الى بغداد لأهميتها، كمثال وليس للحصر.