آخر أبواب بغداد التاريخية.. في مهب الإهمال

839

ميساء فاضل محمد – تصوير: يوسف مهدي /

حاز على إعجاب الرحّالة الأوربيين الذين زاروا العراق في مراحل مختلفة، إذ انبهروا بجمال تصميمه وبنائه وبقدرة المعماري العراقي ورؤيته الهندسية في تلك الحقبة الزمنية، ما جعله يحتل أهمية عالية من بين أبواب مدينة بغداد الأخرى.
هو ذلك الأثر الشامخ رغم الزمن الذي يشاهده كل من يمر على طريق محمد القاسم السريع متوجهاً شمالاً في الجزء الموازي للشارع من منطقة الشيخ عمر، لكن المؤسف كثيراً أن الموقع أُهمل كثيراً حتى أنه أصبح، منذ سنوات طوال، مقبرة، ثم مكباً للنفايات.
عن تاريخ هذا الباب حدثنا الباحث (حسين محمد عجيل) قائلاً:
باب الظفرية هو الباب الوحيد المتبقي من سور بغداد التاريخيّ بعد اندثار أو هدم باب الطلّسم، وباب السلطان (باب المعظّم)، وباب البصليّة (الباب الشرقيّ). وهو أثر عبّاسيّ نادر، سواء في فخامته وجمال تكوينه المعماريّ، أم في مقاومته لعوادي الزمن، وصموده بوجه كلّ ما تعرّضت له بغداد من محن طوال أكثر من تسعة قرون مضت. يعود اكتمال بنائه مع السور إلى زمن الخليفة المسترشد بالله العبّاسي في مطلع القرن السادس الهجريّ، بعد أن ابتدأ بناءَه الخليفة المستظهر لإحاطة بغداد الشرقيّة- حيث تقع دار الخلافة ودواوين الدولة- وحمايتها من الغزوات.
ويهمّني أن أقول هنا أنّني تتبّعت تاريخ بناء هذا السور وبوّاباته لدى ابن الجوزي، في تاريخه الكبير “المنتظم”، وهو مؤّرخ بغداديّ شهير انفرد بتسجيل وقائع الحياة اليوميّة لطبقات المجتمع الدنيا، وقد سرد قصّة مشاركة أهالي محلّات بغداد طوعاً في تحصين مدينتهم بتشييد هذا السور الكبير، الذي كان باب الظفريّة أحد أهمّ بواباته الأربع، وإنّ ما ذكره ابن الجوزي عن تنافس أهالي محلّات بغداد في طرق احتفالها أثناء ذهابها إلى السور وعودتها، وما كانت تقيمه في موقع العمل من وسائل ترفيه وابتكارات غريبة ومذهلة في طريقة صنعها وخيال مبدعيها، يضاهي ما يحدث من مهرجانات شعبيّة عريقة تقيمها كبرى المدن ذات التاريخ الحافل في عالم اليوم، فمنها مثلاً أن أهالي محلّة صنعوا تنوراً يسير على عجل، وعليه خبّازون يخبزون ويعطون الناس أرغفةً حارّة. لقد كان بناء هذا السور بمثابة مهرجان للفرح، ولقد دعوت في مادّة صحفيّة نشرتها في جريدة (المدى) سنة 2003 إلى استعادة هذا المهرجان الشعبيّ في الساحة الفسيحة المحيطة بباب الظفريّة، بعد أكثر من تسعة قرون على مبادرة أجدادنا باجتراحه على غير مثال سابق.
يواصل عجيل حديثه قائلاً:
إنّ أسوأ ما حدث لبغداد في مطالع العصور الحديثة، إقدام الوالي العثماني مدحت باشا -المعروف تجوّزاً بالوالي المصلح- على هدم هذا السور الجليل، لاستعمال آجرّه في إقامة مقر لحكومته وبناء سجن وقلعة، بدلاً من أن يُنشئ معامل لصنع الطابوق، فنسف بذلك جزءاً عزيزاً من تاريخ بغداد كان يمكن أن يكون أعظم ما تحتفي به مدينة. ومن حسن الحظّ أنّ باب الظفريّة سلم من هذا الهدم، وإن هُدمت الأسوار المحيطة به من الجانبين، كاشفةً عن نظام بديع لنقل مياه الشرب لهذا الطرف من المدينة البعيد عن شاطئ دجلة، وآثاره باقية حتى اليوم.
وختم عجيل كلامه بالقول:
إنّ قصّة هذه البوابة وما مرّت به من تحوّلات في تاريخها الطويل هي قصّة بغداد نفسها، وأجمل ما في هذه التحوّلات، أنّ هذه البوابة صمدت في العصور القديمة أمام كلّ الغزوات التي تعرّضت لها بغداد، فلم يتمكّن غازٍ من اختراق العاصمة عبر هذه البوّابة طوال قرون، لكنّها في العصر الحديث أصبحت سجناً ثمّ متحفاً للأسلحة، ثم أهملت زمناً، حتّى صارت مكبّ نفايات المدينة. فمن سوء حظّ محبّي بغداد، أنّ تتحوّل المنطقة المحيطة بباب الظفريّة إلى واحد من أكبر مواقع جمع القمامة وسط العاصمة في التسعينيّات وما تلاها، والأسوأ أن يتمّ إجراء ترميمات غير علميّة على هذا الباب، تسبّبت في طمس بعض جمالياته وهويّته ومعماره، وأذكر أنّ الأسد المنفّذ على واجهة مدخله، تمّ ترميمه بطريقة مشوّهة، حتّى لم يعد يظهر ما إذا كان هذا النحت البارز على الحائط يمثّل أسداً أم قطّة كبيرة، ومن المؤسف أنّ هنالك إهمالاً غير مفهوم لمثل هذا الأثر التاريخيّ الجليل، الذي تحلم به دول في محيطنا، لو كان لديها جزء ضئيل ممّا تمتلك بلادنا لأبهرت في الاحتفاء به الدنيا كلّها.
عن تفاصيل هذا الباب وموقعه وتاريخه ومواصفات بنائه حدثنا السيد (حسن مهدي عبد)، منقب الآثار في كلية الآداب بجامعة بغداد، قائلاً:
يقع الباب قرب ضريح الشيخ عمر السهروردي في المحلة التي كانت تعرف في التاريخ باسم الظفرية نسبة إلى “ظفر”، أحد مماليك دار الخلافة العباسية. وكان هذا الباب يعرف أيضا بـ(باب خراسان)، إذ يخرج منه طريق يؤدي إلى هذا الإقليم، ويسمى الآن بالباب الوسطاني لتوسطه جدار السور الذي كان يحيط بمدينة بغداد الشرقية، ويقع في المنطقة المعروفة الآن بمنطقة العَزّة قرب منطقة الشيخ عمر في جانب الرصافة من بغداد. ويعود بناء هذا الباب على الأرجح الى عصر الخليفة العباسي الناصر لدين الله سنة ٦١٨ هجرية/١٢٢١ ميلادية.
يُردفُ عبد بالقول: يتكون هذا الباب من برج أسطواني الشكل تقريباً بُني بالآجر والجص يبلغ ارتفاعه نحو أربعة عشر متراً ونصف المتر ومحيطه عند قاعدته ستة وخمسون متراً تقريباً، وللبرج بابان أحدهما من الجهة الشمالية الغربية يعلوه عقد مدبب منفرج الزاوية، وأمامه قنطرة من عقدين فوق الخندق الذي يحيط بالسور لعبور الداخلين إلى المدينة والخارجين منها. أما الباب الثاني فيقع في الجهة الجنوبية الغربية من البرج ويؤدي إلى قنطرة فوق الخندق أيضاً على كل من جانبيها جدار فيه مزاغل دفاعية لصد هجمات من يحاول اقتحام الباب.
أما داخل البرج فيتكون من غرفة مثمنة الشكل تعلوها قبة قليلة التحدب في كل ضلع منها تجويف عمقه متران ونصف المتر فُتحت في بعضها مزاغل وفي اثنين منها فتح بابا البرج.
على جانبي المدخل في الجهة المواجهة للمدينة نُحت أسدٌ صغير بشكل بارز من الآجر.
تعلو عقد الباب زخرفة محفورة في حشوات الآجر بأشكال هندسية ونباتية متنوعة يغلب عليها الطابع الهندسي.
يضيف عبد قائلاً:
يحيط بالقسم العلوي من البرج شريط كتابي بخط الثلث حروفه بارزة فوق أرضية من الزخارف النباتية، وقد زالت معظم هذه الكتابة إلا جزءاً يسيراً منها، والملاحظ في تخطيط مداخل البرج اعتماد مبدأ المدخل المنكسر الدفاعي المستخدم في مدينة بغداد المدورة، إلا أن الميَلان في هذا المدخل يكون إلى جهة اليمين بدلاً من اليسار.
في الختام سألنا السيد حسن مهدي عبد:
* موقع الباب الوسطاني الأثري مهمل ومحاط بالنفايات وبقايا الحيوانات النافقة، لماذا لا نجد اهتماماً جدياً بصيانة المواقع الأثرية القديمة وحمايتها من مثل هذه الانتهاكات؟
– أجاب قائلاً: جميع قطاعات الحياة في العراق مهملة ومهمشة ومتدنية للأسف الشديد ومنها الآثار في العراق وذلك بسبب انعدام التخصيصات المالية أو قلتها للنهوض بهذا الجانب من جوانب الحياة.
* وهل ثمة تعاون بين وزارة الثقافة والسياحة والآثار وأمانة بغداد لإعادة الحياة لهذا المعلَم الحضاري؟
– على حد علمي لا يوجد تنسيق وتعاون بين الوزارة والأمانة للنهوض بواقع باب بغداد الوسطاني، في الآونة الأخيرة سمعنا عن نية لإزالة التجاوزات الموجودة على محرمات الموقع والنهوض بواقعه.
* أليس حرياً بنا الاستفادة من هذه المواقع واستثمارها لتكون وجهة سياحية ومورداً مالياً ممتازاً لو أحسنّا إدارتها والترويج لها؟
– تعدّ المعالم الأثرية والحضارية في معظم بلدان العالم من الوسائل الأساسية والمهمة في تطوير تلك البلدان والنهوض بها، لذا أنا مع تطوير هذا القطاع السياحي المهم لرفد الدولة بمصدر مهم للتمويل.