أغرب ما رواه هيروديتس عن أطباء العراق

1٬395

الدكتور محمود الأمين/

كان الطب في مقدمة العلوم التي وجه لها قدماء العراقيين اهتماماً خاصاً إذ كانوا يرون فيه الطريقة الوحيدة لاطالة الحياة ومكافحة الأمراض التي تقضي على الإنسان، وكان اعتقادهم في الأمراض التي تفني جسد الإنسان أنها تنشأ عن حلول بعض الأرواح الخبيثة من الجن في الجسد لأنها عدو لدود له،

تظل تلاحقه حتى تناله وتقتص منه، ولذا فقد كانت أقدم وسائل المعالجة عند قدماء العراقيين هي الرقي والعزائم والأدعية التي كان يقوم بتلاوتها الكهنة على المريض مباشرة أو عن طريق قراءتها على الماء العذب من نهر دجلة أو الفرات ثم يرش المريض بهذا الماء أو يتناوله بجرعات، كذلك كانت هناك طريقة أخرى في معالجة الأمراض عند قدماء العراقيين وهي الطريقة العطارية، أي بواسطة وصفات من الأعشاب والحشائش التي كان يعتقد في فائدتها للمريض ومازالت هاتان الطريقتان متبعتين لدى بعض الطبقات العراقية عندنا اليوم، كما لا يزال البابونك (البيبون) يستعمل للشفاء من كثير من الأمراض كما كان يستعمل قبل بضعة الآف من السنين في بلاد وادي الرافدين.

وقد ذكر لنا المؤرخ اليوناني (هيرودتس) الذي زار بابل حوالي سنة 450 ق.م. طريقة تشخيص المرضى ومداواتهم، فقد جاء في معرض كلامه عن الطبابة عند قدماء العرقيين، أنهم يجلبون المريض ويضعونه على قطعة من الخشب في إحدى أسواق المدينة وكانوا يفعلون ذلك لأنهم لا يودون عرض المريض على الطبيب كي لا يختص شخص واحد فقط بتشخيص المرض، ثم يتقدم اليه الناس من المارة ومن الموجودين في السوق فيشخص كل واحد منهم نوع المرض الذي يشكو منه المريض، ويحاول أن يماثله بمرض مثله إن كان قد اصيب به نفسه أو أحد أقربائه وذويه، ثم يتكلم مع المريض ويسأله عما يشكو، ويستفسر منه عن عوارض مرضه، ومن بعد ذلك، يصف له الدواء الذي كان قد استعمله هو أو أحد أقربائه لمكافحة هذا المرض، ويقول (هيروديتس) أنه لا يجوز للانسان أن يمر من أمام المريض من دون أن يقف عنده ويتكلم معه ويواسيه في الأقل أن لم يستطع اسعافه.

ويظهر لنا من أخبار الأقدمين أن هذا النوع من الطبابة الرخيصة كان شائعا في بلاد الشرق الأدنى، كبلاد فارس ومصر وحتى في اليونان كما كانت طريقة الطبابة بالرقي والعزائم منتشرة ايضاً، وقد كان لدى قدماء العراقيين طريقة ثالثة في الطبابة، وهي طريقة العملية الجراحية التي ورد ذكرها في عدد كبير من رقم الطين الطبية، ولا سيما رقم الطين التي ترجع الى القرن الثالث عشر قبل الميلاد والتي عثر عليها المنقبون في بوغاز كوي في الأناضول، ثم في تلك الرقم الطين التي استخرجت من مكتبة آشور بانيبال، فقد عرف قدماء العراقيين أحشاء الانسان وأعضاءه الداخلية وأعمالها الرئيسة كالقلب والرئة والكبد والكلى والمثانة والمعدة والرحم والمرارة والأوردة والشرايين والأغشية المخاطية وشخصوا وظائف كل منها على قدر مداركهم وملاحظاتهم، فمثلاً كانوا يعتقدون أن القلب مصدر التفكير وتزداد حركته كلما تعمق المرء في التفكير، والكبد مركز الفرح والغضب، فإذا غضب الانسان واغتم، انتفخ كبده وتورم.

وكان اعتقادهم في المعدة أنها موطن القوة والضعف والحذاقة والحيلة، وكانوا يعتبرون الرحم بيت الجنين وموطن الرحمة والشفقة والحنان.
وكانوا يعتبرون الأنف رمز الأنفة والاعتزاز بالنفس، أما الحلق فكان لديهم بمثابة الوعاء الذي يمر منه النفس وتمكث فيه الروح فاذا قطع مات الانسان، هكذا كان يعلل قدماء العراقيين أهمية أعضاء الجسد للانسان، وقد كانوا يعتقدون أن الحمى علامة المرض في الجسد وأن المعدة والأحشاء مأوى لكل داء، لأن الأمراض في نظرهم كانت تنجم عن دخول بعض الجان المعادية للبشر في المعدة عن طريق الفم ولذلك فقد كانوا يلجأون الى السحرة والمشعوذين وقراء الأدعية وأهل الرقي، ولكن تجاه هذه الأرواح الشريرة كانت توجد آلهة الشفاء التي تبرئ المريض من المرض بطردها الجان من الجسد، وكان أهم آلهة الشفاء المعروفة عند سكان العراق الأقدمين الإله (نن كرصو) المعروف عندهم بشيخ الأطباء وابنه (بن كش زدا) وكان يرمز اليهما بقضيب تلتف على جانبيه حيتان رأساهما يلتقيان عند رأس القضيب أو الصولجان وقد أخذ اليونانيون هذا الشعار عن قدماء العراقيين واعتبروه رمزاً للطب عندهم، وهو مازال يستعمل الى يومنا هذا، وقد عثر المنقبون على نماذج كثيرة من هذا الشعار في أطلال المدن العراقية القديمة ومن جملتها إناء رسم على سطحه الخارجي هذا الشعار وجد في مدينة لكش (تلو) ويعوذ الى الحاكم الكاهن السومري كوديا حوالي سنة 2030ق.م. أما سبب اتخاذ الحية في معتقدات قدماء العراقيين رمزاً للحياة فذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن الحية لا تموت لأنها تبدل قميصها دائماً أي أنها تعود الى عهد الشباب كلما تحرم.

أما الطبيب فقد كان في نظر قدماء العراقيين ممثل آلهة الشفاء على الأرض وقد كان في بلاد وادي الرافدين نوعان من الأطباء نوع يطيب البشر أي الطبيب، وكان يدعى آسواي الموآسي أو الذي يطيب المريض ويطهر مرضه بالماء العذب. ثم نوع آخر كان يطيب الماشية والدواب وكان يدعى بالمنعش أي الذي ينعش الحيوان ويعيد اليه صحته وهو ما يقابل عندنا اليوم بالبيطار.

وقد كانت لهذا البيطار مكانة مرموقة في بلاد وادي الرافدين كصاحبه الطبيب. حيث ورد ذكره في قوانين حمورابي في فصل تحديد الأجور للعمال والصناع والموظفين والأطباء والبياطرة. ولكن ويل لأولئك البياطرة الذين يفشلون في العمليات الجراحية التي يجرونها للحيوان، فاذا فشل البيطار في معالجة الحيوان وسبب موته فأنه يغرم ويجازى وكثيراً ما يحرم من مزاولة مهنته، وقد وردت في قوانين حمورابي مواد بحق الطبيب تشبه تلك المواد التي وضعت بحق البيطار، فمثلاً إذا توفق البيطار في تطبيب عجل أو حمار فإن أجره يعادل ثلث المثقال البابلي من الفضة أي نحو من تسعة غرامات من الفضة، أما إذا لم ينجح في تطبيب الدابة وسبب موتها فأن جزاءه أن يدفع غرامة لصاحب الحيوان تعادل خمس ثمنها. أما القوانين التي وضعت في شريعة حمورابي بحق الطبيب ولا سيما الطبيب الفاشل فأنها أكثر شدة من هذه التي وضعت لمعاقبة البيطار الفاشل. فالطبيب الجراح الذي يجري عملية ناجحة لمريض او ينقذ عيناً من التلف بواسطة عملية ناجحة فإن اجرته تكون عشرة مثاقيل من الفضة، أي ما يعادل مائتين وثمانين غراماً من الفضة وهذه هي الأجرة التي يدفعها الغني أو الطبقة المترفة لان قوانين حمورابي ميزت بين الغني والفقير في دفع أجور المعالجة، فقد كان الفقير يدفع نصف الأجور اي خمسة مثاقيل، وكان العبيد يدفعون مثقالين فقط، أما إذا فشل الطبيب في العملية وسبب موت المريض أو فقد احدى عينيه، فقد كان عقابه أن تقطع يد الطبيب حتى لا يمس بعد ذلك بشراً. وقد كانت الغاية بالطبع من هذه القوانين الصارمة أن لا يجازف الأطباء بأرواح الناس ويقدمون على اجراء العمليات الجراحية لأجل المال ويتخذون من الطبابة وسيلة للرزق وأن لا يقدم على معالجة المريض إلا بعد أن يتأكد من نجاح المعالجة أو العملية، وبهذا ضرب قدماء العراقيين مثلاً عظيما في الاهتمام بحياة الفرد وتقدير الدولة له، وقد أيدت لنا الرقم الطين الطبية تردد الطبيب العراقي القديم وتخوفه من لمس المريض الذي يتأكد لديه موته وحرمت التعليمات الطبية ذلك بقولها: (لا تضع يدك على المريض اذا تأكدت من موته) وبالرغم من هذه القيود الصارمة والمخاوف التي تحيط بالطبيب فقد كانت واردات الطبيب في المجتمع العراقي القديم كثيرة، فالطبيب الخاص للملك الآشوري اسر حدون مثلاً، كان يعيش حياة مترفة، وقد ذكر عن نفسه أنه كان من أصحاب القصور لأنه كان طبيباً ناجحاً، وتدلنا المعلومات التاريخية التي لدينا عن الطب والأطباء في المجتمع العراقي الديم أنه كان في بلاد الرافدين أطباء مختصون ومن ضمنهم الطبيب الخاص بالملك وبلاطه، ولكن كثيراً ما كان هذا الطبيب الخاص يعالج اناساً من رعية الملك، وقد حدث مرة أن أحد القرويين بعث رسولاً الى الملك اسرحدون يطلب منه أن يرسل اليه طبيبه الخاص لعدم وجود طبيب في قريته فلبى الملك الآشوري طلب هذا القروي وارسل اليه طبيبه الخاص.

وكان الطب في وادي الرافدين راقياً آنئذ لدرجة أن الأطباء يستدعون لمعالجة المرضى في خارج العراق، كثيراً ما كان يصير استقدام الأطباء عن طريق المراسلات الدبلوماسية، كأن يكتب أحد الملوك الى الملك العراقي يرجوه أن يبعث عدداً من الأطباء للمعالجة فقد حدث أن كتبت الحكومة المصرية أو الفرعونية الى الملك البابلي تشرتا وارسلت اليه وفداً خاصاً ترجوه ارسال بعثة طبية من خيرة أطبائها لمعالجة فرعونها امينوفيس الثالث الذي كان يشكو من مرض عضال، فلبى الملك البابلي طلب الحكومة المصرية وارسل لهم لجنة من الأطباء الآشوريين في نينوى فذهبوا الى مصر يحملون معهم تمثال الالهة عشتار لأنها كانت آلهة الشفاء والرقي والتعاويذ لدى الآشوريين، وقد كان ذلك حوالي سنة 1413 قبل الميلاد، كذلك ارسلت الدولة الحثية وفداً الى الملك البابلي ترجوه ارسال من يطبب ملكها المريض فاستجاب الملك البابلي لهذا الطلب وارسل معوذاً وطبيباً الى عاصمة الحثيين وصادف أن المعوذ توفي وتخلف الطبيب عن العودة الى العراق ويظهر أنه استطاب الاقامة والعيش هناك فبعث الملك البابلي في طلبه ويستفسر من الملك الحثي عن السبب في بقائه عنده هذه المدة الطويلة.