أمامها ينحني الزمن

328

رجاء خضير /

الجزء الاول..

قد تكون الحقيقة خيوطاً واضحة في حياتنا، وحين لا نريدها نوهم أنفسنا بأنها خيوط متشابكة وضرب من المستحيل، هكذا نحن البشر، كل يوم في شأن، نتوه في مسالكها ونعتقدها الصواب.. ولا نعرف أين نحن منها!
قابلتُ (هـ) التي..
تحتفظ بجمالها الذي مضت عليه ستون عاماً، وما زالت تضاهي الأزهار بجمالها ورقتها التي حباها الله بها منذ كانت طفلة.
قالت لي (هـ):
نشأتُ وسط عائلة محافظة جداً، وكنت البنت الصغيرة بين ثلاثة أشقاء وأختين..(أختي الكبيرة وأنا)، وكنا نسمع كلمات الإطراء والمديح لجمالنا وحُسن تربيتنا. ومع الأيام اكتشفت أن الجمال قد يكون نقمة على صاحبه.
أكملت (هـ) حديثها:
كنت في المرحلة المتوسطة حينما كان بابنا يطرق باستمرار من قبل الخطاب الذين كانوا يأتون لخطبتي، ويكون مصيرهم كسابقيهم: الطرد، لأن أمي كانت شديدة المراس، وبحجة “أنها صغيرة وترغب في أن تكمل دراستها…” وفي يوم تناهى الى سمعي -وأنا اقرأ في غرفتي- أن أحد المتقدمين لخطبتي ذو مكانة مرموقة ومنصب جيد في دائرتهِ، الحديث كان بين أمي وخالي الوحيد، الذي كان يحاول أن يقنعها بالموافقة، لكن دون جدوى.
مرت السنون والحال كما هو، وأصبحت في الإعدادية، وخلالها مرضت أمي وأصبحت تشكو من آلام عدة، كنت أرى في عينيها حزناً دفيناً، وكلما سألتها عن السبب تبتسم وتغير مجرى الحديث.
في ذهابي الى المدرسة وعودتي كنت ألاحظ شاباً وسيماً ينتظر بالقرب من المدرسة، وحين ننصرف أنا وزميلاتي كان يلاحقنا، كنا نضحك ببراءة ونقول منْ منا هي المقصودة؟؟
يغيب فترات ثم يعود.. الى أن زارتنا يوماً مجموعة من النساء الوقورات وتحدثن مع أمي، بل وأصبح الحديث توسلاً إليها، وأمام ذلك طلبت أمي منهن مهلة للتباحث مع شقيقي الكبير وخالي.
وتمت الموافقة لأنه شاب ذو أخلاق وعائلة محترمة، لا يوجد فيه عيب أو نقص ليرفض، أما حجة أمي: فكيف أتزوج أنا الصغرى والكبيرة لم تتزوج بعد؟
هنا تدخلت واقنعت أمي بأن أترك المدرسة لصعوبة الدروس، بعد أن عرفت بأنه هو من كان يلاحقنا، فهمت أمي معنى كلامي هذا.
وجرى الزواج منه رغم معارضة الأقرباء الذين فوجئوا من الأمر كيف كان وبهذه السرعة، فأغلبهم كانوا يرغبون بي زوجة… كانت إجابة أمي حاسمة لجميعهم: إنه النصيب!
عشت مع أهل زوجي، رغم كثرة أفراد اسرته، كيف لا وهو الولد الوحيد لأمه بين ثماني شقيقات، وظيفته
كنتُ الاحظ حبهُ واهتمامه بي طوال الوقت، بل إن دلاله لي أثار بعضاً من أخواته، فكانت أمه (رحمها الله) تدافع عنه وعني!
حملتُ بطفلتي الأولى، وحينما أنجبتها رأيتُ الوجوم على وجوه أهله، إذ كانوا يتمنون ولداً يحمل اسمه، هذا ما سمعته منهم، وكان هو يدافع بشكل لافت للنظر. زادت المشاكل بيني وبين أهله، أمر طبيعي، وهذا ما يحصل في جميع البيوت. ثم حملتُ للمرة الثانية لأنجب بنتاً أخرى، كان يسكتهن بقولهِ (الحمد لله بنات يشبهن أمهن بالجمالِ)!
أردفت (هـ ) بعد أن ارتاحت قليلاً:
كانت امه راضية عني وتحب حفيدتيها بشكل كبير الى أن توفاها الله.. بعثت له رسالة لأخبره بالأمر، لكنه لم يجب! اتصل به أقاربه والنتيجة واحدة: ليس هناك رد!
وبدأ السؤال عنه، ذهبوا الى موقع عمله ليخبرونا أنه في مهمة وسيعود، أخبرت شقيقاته بأنني حامل، وما هي إلا بضعة أيام وعرفنا أن الجنين ولد، فرحت شقيقاتهُ كثيراً. وحينما عاد كان ينتظرهُ خبران: الأول محزن، وفاة أمه، والآخر مفرح هو مجيء الولد الذي أفرح الجميع، تمنينا جميعاً أن تكون أمه حاضرة لتشاركنا هذه الفرحة.
مضت سنتان على ذلك, لأحمل بطفلٍ آخر.. وذهب الى عمله مرة أخرى، ومنها لم نرهُ، إذ فقد هذه المرة بجد، انتظرناه طويلاً لكنه لم يأتِ، ولدتُ طفلي بغيابهِ، أخبرتنا دائرته بفقدانهِ.
إذن علي أن أشد أزري وأتحمل مسؤولية أطفالي الأربعة (بنتين وولدين)، سعيتُ للحصول على استحقاقاتهِ، بل وبدأتُ أفكر ببناء أرضهِ، وهنا فكرت بالوظيفة لأساعد في ميزانية البيت التي أنهكها البناء.
وسكنتُ في البيت الجديد بلا أبواب ولا شبابيك لأتخلص من الإيجار،.
كبروا أولادي وأصبحوا في مراحل دراسية مختلفة وليس هناك خبر من والدهم، كان في عداد المفقودين.
كان أولاده الثلاثة –الأولون- يتذكرونه كصورة ضبابية، أما الرابع الصغير الذي كنت حاملاً به حينها، فيعرفه فقط من خلال الصور.
وتلاحقت الأحداث تترى، كل حدث يأخذ جزءاً من صحتي ومشاعري التي أخمدت سنوات شبابي وأنوثتي التي ضاعت بفقدان زوجي.
في يومٍ ربيعي، وأنا أذاكر لأولادي، طرق بابنا لأجد شقيقة زوجي، التي تعمل قانونية، لتخبرنا بأنها استدلت على شقيقها، طرنا فرحاً و: متى يأتي، كانت هي صرختنا جميعاً!
أجابت: عن قريب….
شردتُ بأفكاري، فقد مضت على غيابه سبعة عشر عاماً، سيجد اطفاله قد كبروا وقد ضحك الشيبُ برأسي…و…و….
وجاء هذا اليوم، استقبلناه رجلاً كهلاً قد خط الزمن على وجهه خطوطاً واضحة، وأنهكته الغربة عن الوطن وعن الأهل، أما اولاده فقد تسمروا في مكانهم لا يعرفون من هذا، هل هو والدهم الذي يتذكرونه في الصور أم هو رجل مشرد وجد ضالته أخيراً؟!
مضت الأشهر سريعة، لم يقل أين كان محتجزاً أو سجيناً أو أسيراً، لم يقل شيئاً وكأنه يخاف من أمر مرعب محدق به، كان يحب الجلوس صباحاً أمام الباب، وفي يوم سمعت صوت إطلاقات نارية كثيفة، خرجت مسرعة لأتبين الأمر.. وجدته يسبح بدمائهِ بينما فرت سيارة سوداء بلا أرقام بسرعة جنونية..
تجمع الناس والمارة وأنا لا أعرف منْ؟ ولماذا؟ ولم تمضِ على عودتهِ سوى بضعة أشهر….