أم كلثوم تكتب عن طفولتها: سيدنا في الكتاب والمفتش على حمارته
ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
إني أعود الى ذكريات طفولتي فأبتسم في حنين الى تلك الأيام الجميلة الخالية، إن الزمن دواء عجيب يستطيع دائماً أن يشفى ما كان يصحب ذكريات الطفولة من أحزان وشجن فلا يترك بعدها ألا أطيافاً سعيدة تعيش في خيالي وتعاودني بين الحين والحين.
لقد كان الذهاب الى “الكتّاب” في الصباح مثلاً حادثة فاجعة تتكرر في حياتي كل يوم..
وأذكر يوم ذهبنا الى الكتّاب في الصباح فوجدنا العريف واقفاً على بابه يصدنا عنه بعد أن كان يسوقنا اليه، وعرفنا النبأ الرهيب أن سيدنا قد مات!
وأستطيع أن أراهن أن كل تلاميذ الكتّاب اعتقدوا أن الله استجاب لأعز أمنية كانت تجول في خواطرهم!
ولقد مرت السنوات فمحت كل هذه الأشجان وأعود اليوم الى ذكريات الكتّاب فابتسم وأنا أكاد أحس وقع “المقرعة” وهي تنهال على جسدي بلا حساب، ثم تزداد الابتسامة وأنا أسأل نفسي: ألم يكن سيدنا معذوراً فيما كان يفرض علينا من عقوبات؟!
كثيراً ما كان يحدث أن نذهب الى الكتاب في الصباح فإذا “سيدنا” يأمرني وبعض زميلاتي أن نذهب لنساعد حرمه المصون! في تنقية الحَب من الطين والطفيليات..
وأذكر أنني كنت أطلب الى زميلاتي أن يحتفظن بما يجمعن من طين وطفيليات حتى إذا جاء الظهر ورأت حرم سيدنا أننا عملنا بما فيه الكفاية نغافلها ونعيد الى الحب النقي ما جمعته انا وزميلاتي من الطين والطفيليات..!
وكانت حرم سيدنا تكشف جريمتنا بعد ما نذهب.. وفي الصباح التالي يترك سيدنا “المقرعة” تعبر بصراحة عن آراء حرمه فينا..
وأذكر عادة كانت تنغص حياتنا ومع ذلك فإن سيدنا لم ينسها مرة طول شهور الصيف الحارة..
وكان يحب أن يجلس في الظهر وأمامه “سلطانية” مليئة بحب الرمان والماء والسكر.. وتظل الملعقة حائرة بين “السلطانية” وفم سيدنا الى أن يأتي على ما فيها ونحن أمامه نراقبه ونحس حرقة الظمأ في شهور يونيو ويوليو وأغسطس التي تشتعل ناراً من حرارة الصيف!
وحدث يوماً أن رأى سيدنا ألا تشغله سلطانية الرمان عن تصريف شؤون الكتاب، فلما جاءته السلطانية المعهودة وضعها أمامه ودعا إليه أحد التلاميذ، كان اسمه “عمرو” ليسمعه ما يحفظه من سور القرآن..
وقال سيدنا بعد أن ازدرد ملء فمه من حب الرمان والسكر المذاب:
* أسمعني، قل أعوذ برب الفلق!
وكان “عمرو” في عالم آخر، كان هائماً في عالم الرمان، يرقب الملعقة وهي تقطع الطريق ذهاباً وإياباً بين السلطانية وفم سيدنا وهو فاغر فمه بحسرة ولهفة..
وصاح سيدنا..
* قل يا ولد “قل اعوذ برب الفلق!”
وانهارت مقاومة عمرو فإذ هو فجأة يقول في صوت متقطع محموم:
– ما تديني حبة رمان يا سيدنا!
وهناك ذكرى من ذكريات الكتّاب ظلت تطاردني كاللعنة مدة طويلة..
فقد ذهبت الى الكتاب ذات صباح مبكرة عن العادة، ولم يكن السبب راجعاً الى نوبة نشاط بقدر ما كان راجعاً الى نوبة من نوبات الشقاوة والرغبة في الأذى.
فقد ذهبت قبل كل تلاميذ الكتاب لأكسر ما تقع عليه يداي من أصابع الأردوار والألواح وأنقل كراسة كل تلميذ من درجه الى درج آخر، ثم أستمتع بعدها بجو الذعر حين يحضر سيدنا ويحضر التلاميذ ويبدأ الدرس فإذا هم يفاجأون وإذا الذعر يسيطر عليهم فلا يجرؤ أحدهم ان يفتح فمه بكلمة، وانا أغالب الضحك لأكتمه في صدري..
وفي ذلك اليوم ذهبت مبكرة.. وفجأة سمعت وقع أقدام حمار يركض ثم يقف أمام الكتّاب وسمعت صوتاً يقول:
* افتح الباب لحمارة المفتش، وفهمت أن مفتش وزارة المعارف قد وصل.. وقبل أن أستطيع التفكير في موقفي فتح الباب ودخل المفتش فجلست في مقعدي ونظرت اليه في صمت:
وكان المفتش رجلاً عصبياً..
وقد فوجئ بكتاب ليست فيه إلا فتاة واحدة فصاح بأعلى صوته:
– من هنا؟!
وقلت وأنا أرفع إصبعي: أنا!
وأمسك عمامته بيده واقترب مني وهو يقول:
– ما شاء الله.. كتّاب بأكمله ليس فيه إلا بنت واحدة:
ثم أخذ يهدر مهدداً سيدنا وأنا لا استطيع أن أغالب الفرحة.
وبعد قليل دخل سيدنا وكان خبر وصول المفتش قد أبلغ اليه فانهال عليه المفتش لوماً وتأنيباً ولم ينس أن يستغل وجودي ليشيد بنشاطي وإقبالي على الكتّاب مندداً بكسل سيدنا وانصرافه عن الكتّاب وشؤونه!
وانتهت زيارة المفتش ولكن سيدنا جعلني أدفع الثمن..
كان يلقى علينا أعقد الأسئلة فيرفع التلاميذ أيديهم ليجيبوا فيهز رأسه في حنق ويقول مشيراً ألي:
– لا.. لابد ان تجيب عليه “الشاطرة الفالحة” التي تجيء مبكرة كل يوم وكانت “الشاطرة الفالحة التي تجيء مبكرة” تتعثر دائماً في إجاباتها
ويجد سيدنا الفرصة سانحة لينتقم منها!
وهناك من حوادث طفولتي ما اذكره اليوم فابتسم مع ان هذه الحوادث كانت تبكيني!
أذكر أحد الأفراح التي حضرتها في مستهل حياتي الفنية.. فقد أنفق أحدهم مع والدي على ان نحيي له فرحاً في قرية بالقرب من “نبروه”..
ولا أزال اذكر صبيحة يوم الفرح حين أخذنا القطار من السنبلاويين الى المنصورة ثم عبرنا النيل الى “طلخا” وركبنا السكة الضيقة الى “نبروه” الا بحق يا محمد.. موش احنا اجلنا الفرح..
ورد “محمد” في بلاده مشيرة: آه!
وكانت أعجب “آه” سمعتها في حياة مليئة بالآهات!
ودعينا مرة اخرى الى حفلة في إحدى القرى.. ووصلنا الى القرية ونزلنا بمنزل صاحب الحفلة ننتظر مجيء الليل لتبدأ الأفراح..
وجاءنا صاحب الحفل قرب العصر وقال: ألا تريدون أن تشاهدوا مكان الاحتفال ..
وقلنا: هيا بنا..
ونزلنا الى حيث كان الاستعداد على قدم وساق لاحتفال تلك الليلة، ولما وصلنا الى حيث كان يجب أن أقف وأغني، ربّت الرجل على كتفي في طيبة وقال: اسمعي يا بنتي حينما ترين هذا الفانوس قد كسر فانزلي واختبئي تحت المنصة.
– وسأله والدي في دهشة: ليه؟
وقال الرجل في صراحة مازلت أحسده عليها:
– إصل بقى بالحق..
ثم اخذ يروي لنا كيف أنهم أحضرونا لإقامة هذه الحفلة لكي يدعوا إليها أهل قرية مجاورة لينصبوا لهم كمينا أثناء الحفلة ويضربوهم..
وبدأت ركبتي تهتز وأسناني تصطك.. وجاء موعد الحفل وبدأت الجموع تفد الى السرادق ودخلت فاعتليت المنصة وانا انظر الى حيث يجب أن أهرب عندما يكسر الفانوس.. ثم نظرت الى الفانوس وهو يهتز وقلبي يهتز معه وأنا أغني:
“سبحان من أرسله رحمة” ولم أحس في حياتي أنني أغني بوجداني ومشاعري كما كنت أغني للفانوس وأنا أخاطبه ناظرة اليه من خلال الدموع:
“سبحان من أرسله رحمة”
وفجأة تحطم الفانوس.. وكنت أسرع من البرق في الاختفاء تحت المنصة، ويبدو انني لم أكن اكثر الناس خوفاً بل أن صاحب الفرح نفسه هو الذي كان يرتعد رعباً فقد اكتشف بعد فوات الأوان أن أهل القرية الأخرى جاءوا وهم ايضا يضمرون العدوان وجاءوا وفي نيتهم ان يقلبوا الفرح مأتماً وكانت مفاجأة لصاحب الفرح ان يكتشف ان ضيوفه كانوا اكثر استعداداً وقوة من الكمين الذي نصبه لهم ودارت الدائرة عليه.. وما صدقنا ان خرجنا من القرية في اليوم التالي وأنا أردد من قلبي بايمان منقطع النظير..
سبحان من أرسله رحمة