أنا والقدر بالانتظار

1٬072

#خليك_بالبيت

رجاء خضير /

باتت الحكايات سمرنا في الليالي، بل وحتى النهار, ونعرف جيداً أن هذا لايغني من فقر ولا يشُبع من جوع, فعلام هذا التشبث بشيء هو الأقرب للمستحيل, هذا ما نحياه الآن في زمن لا تنتهي فيه المسافات ولا نفهم منه لغة الحروف فهو غير زماننا, وكلما أردنا الوصول إلى النهاية نرى أنها نقطة البداية… نحن هكذا في هذا الزمان… نحن هكذا….
قالت نهى (اسم مستعار) بحزنٍ واضح: “هما ابنتاي التي خرجتُ بهما من الدنيا, كرستُ حياتي لهما بعد أن يئست من العثور على والدهما الذي اختفى في ظروف غامضة، وبعد أن يئس والداه في التوصل إلى أي خبر عنه، فاتحتهما بالسماح لي بالانتقال إلى بيت أهلي.”
لم تكن تقاليد أهل نهى تسمح لها بالبقاء بعد اختفاء زوجها في بيت أهله ووسط إخوته، وقد حاول والد زوجها أن يشرح لوالدها بأن الدنيا تغيّرت ولم تعد التقاليد البالية تحكمنا الآن, لكنه لم يقتنع واصطحبها مع ابنتيها مع وعد منها أن تزور أهل زوجها، الغائب قسراً، باستمرار.
مرت السنون سريعة, وأصبحت الابنتان في المرحلة المتوسطة، وكان راتب والدهما، الذي اعتبر مفقوداً، يكفيهن مع بعض المساعدات من أهلها….
تكمل نهى: “يئس الجميع من عودة زوجي، إلا أنا, فقد كنت أحسهُ قريباً مني ويشاركني في القرارات التي تخصّ ابنتينا. وخلال هذه الفترة رفضتُ الكثير ممن تقدموا لخطبتي وفي كل مرة أقنع والدي بأنني أعيش من أجل ابنتيّ، إلى أن جاء والد زوجي يوماً ليفاتح والدي بأن السنين تمضي ولا أمل في عودة زوجي، لذا اقترح علينا أنا ووالدي أن يتزوجني شقيق زوجي وبذلك نضمن مستقبلي أنا والبنتين .”
لم تدعه نهى يكمل مقترحه، بل واجهته بإحساسها بوجود زوجها وأنه راجع لا محالة، وستنتظره مهما طال الزمن. وكان جواب والد زوجها غير متوقع إذ قال بحدّة: “اذن ابقي أنت مع أهلك, ولكننا سنأخذ البنتين معنا!” وغادرهم بعد أن منحها وقتاً للتفكير والقرار.
جنَّ جنونها وصرخت باكية ومتسائلة عن سبب إبعادها عن ابنتيها اللتين لم تقصر بأي واجب تجاههما. ولم تكف عن الصراخ إلا بعد صفعة من والدها الذي طالبها بالهدوء قائلاً: “لديك وقت للتفكير بهدوء وتروٍّ وابدئي بتهيئة ابنتيك للذهاب مع جدهما في المرة المقبلة في حال رفضك مقترح الزواج”، لكنها استمرت بالبكاء وأمرها والدها بالسكوت لأن “لأهل زوجك عشيرة كبيرة وقد تتدخل لتغيير الحقائق لصالحهم وأخذ البنتين منك بالقوة إذا لم توافقي على عرضهم.” وأكملت والدتها بنبرة يخنقها البكاء: “قد يتأذى والدك وإخوتك إن لم توافقي.”
بقيت نهى لوحدها في دوامة ليس لها قرار متسائلة: أين العدل في مثل هذا التعامل مع أم نذرت نفسها لابنتيها ولزوجها الغائب؟ وتحذير والدتها لا يفارقها بعد أن نبهتها إلى احتمالات لم تفكر بها: “قد يأخذون البنتين رغماً عنك ويجبرونهما على ترك الدراسة أو على تزويجهما رغما عنهما.”
وفكرت نهى دون أن تتوصل إلى قرار وتتوسل بدعائها أن يعود زوجها الحبيب لينقذها مما هي فيه.
وقبل أن تنتهي مهلة الشهر، وهي تساعد ابنتها الصغرى في إكمال واجباتها المدرسية البيتية، وقعت مغشياً عليها ونقلها والدها بسرعة إلى المستشفى حيث أبلغها الطبيب بأنها على حافة انهيار عصبي إذا لم تنتبه الى نفسها وتلتزم بنصائحه.
في اليوم التالي وهي تعود إلى البيت مع انتهاء مهلة التفكير، وجدت أمامها والد زوجها وشقيقه المرشح للزواج منها، جاءا ليسمعا قرارها، ورغم توسلات والديها بتركها لفترة أخرى بسبب حالتها الصحية، إلا أنهما أصرا على سماعها. وتكلمت راجية أن يمهلوها للغد فقط. وافقا مع تهديد واضح إن هي رفضت فإنهما يرفضان أيضاً أن تعيش الابنتان في بيت غريب بعد أن كبرتا!
في اليوم التالي كانت الموافقة قرارها. ذهبت مع ابنتيها. وبعد استحصال قرار بالانفصال من المحكمة بسبب مرور سنوات على غياب الزوج تزوجت شقيقه، ولم تفارقها ذكريات الزوج الحبيب في البيت نفسه والتزمت بنصيحة والدتها أن تصم أذنيها كي لا تسمع منهم ما يرغمها على الرد.
تضيف نهى: “أرغمت نفسي على التحمل ومسايرتهم لأجل ابنتيّ، وكانت ذكريات زوجي الغائب تساعدني في أن أمضي في حياة جافة لا معنى لها. ومع مرور الأيام ازداد يقيني بأنه في مكان ما قريب!”
تسكت برهة ليهدأ حزنها وتروي الخبر الذي صدم الجميع، عداها، وتقول: في مساء شتوي بعد مرور ثماني سنوات على اختفاء زوجي, طُرق الباب بهدوء، خرج والد زوجي وتأخر قليلاً ليحادث شخصاً ما، ثم دخل بوجه حزين تعلوه صفرة الأموات, لم يجب على أسئلة من في البيت وطلب من زوجته أن تعينه في الذهاب إلى غرفته وتمتم: “إنه حي، إنه موجود، كذبت أحاسيسنا وصدقت أحاسيس نهى”، ليفهموا أن زوجها الأول ووالد ابنتيها ما يزال على قيد الحياة، وأنه يقبع في أحد سجون محافظة…..! وكان من طرق الباب سجيناً معه، جاء ليخبرهم دون أية معلومات أخرى وذهب مسرعاً وكأنه كان يخشى ممن يراقبه!
صُدم الجميع بهذا الخبر, وبدأ البكاء والعويل من الجميع، أما نهى فصرخت بهم: “ولماذا البكاء الآن، قلتُ لكم مراراً أن قلبي يحدثني بأنه على قيد الحياة، وتوسلتُ بكم كثيراً أن تتركوني وشأني مع أبنتيّ، ولكن جبروتكم وقراراتكم القاسية حالت دون سماعي.” اتصلت بأهلها الذين جاءوا مسرعين وهول الصدمة واضحة عليهم, وبعد مشاورات بين الجميع اتفقوا أن يذهب أحدهم إلى السجن الذي اشار إليه الزائر الغريب للتأكد من صحة قول الزائر الذي لم يعرفوا حتى اسمه.
تقول نهى: “وذهب شقيقهُ، الذي هو زوجي (الثاني), لكن الغريب في الأمر أنهُ أخذ أوراقه الثبوتية بل وحتى جواز سفرهِ وحينما سألته عن سبب أخذه لهذه الأوراق أجابني بأنه قد يحتاجها في حال العثور على زوجي الأول لإثبات أنه شقيقه”.. وتضيف: “مرت أيام طوال لم يعد و لم يتصل بنا كما وعد والده بذلك, وبعد مدة طرق الباب ساعي البريد ليسلمنا رسالة من زوجي الثاني, قرأها والده بصوت مخنوق وجاء فيها بأنه وجد شقيقه قابعاً وراء القضبان ولا يعرف تهمته والمدة التي سيقضيها وأنه تحول إلى حطام إنسان، وبدموعه سأله علينا جميعاً وغادر سجن شقيقه ليغادر العراق إلى جهة مجهولة ليتوارى من سوء فعلتهم، وعاتب والده كثيراً وأكد عليهم أن لا ينتظروا عودته أبداً.”
وهكذا بقيت نهى كريشة يطوّحها الهواء, فلا هي مستقرة فوق الأرض, ولا هي محلقة في السماء وتنهي حديثها “أنا بأنتظار ما سيخطهُ القدر لي! “