أوهام تحقيق العدالة في فيلم “المدعي العام”
محمود الغيطاني/
في فيلم يعتمد اعتماداً أساسياً على وقائع حقيقية حدثت أثناء حرب البوسنة والهرسك، حيث المذبحة التي وقعت في قرية جلوجوفا عام 1992م في البوسنة، وهي المذبحة التي راح ضحيتها 64 شخصاً من المدنيين، تعتمد المخرجة والسيناريست البلغارية إيجليكا تريفونوفا في تقديم فيلمها المهم “المدعي العام، والدفاع، والأب وابنه”؛ رغبة منها في إثبات أن العدالة لا يمكن لها بالضرورة أن تتحقق مهما سعينا إليها، وأنها ذات مفاهيم متعددة، بل إن المفهوم الأعمق للتسامح من الممكن أن يكون أهم من هذه العدالة.
إذن، فنحن أمام فيلم تدور أحداثه في لاهاي، مُستوحى من واقع المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، وربما نلاحظ أن المُخرجة تميل في أسلوبيتها السينمائية إلى انتهاج أسلوبية السينما الوثائقية في تقديم فيلمها الذي كان جزء كبير منه يدور في قاعة المحكمة، بشكل فيه من الرشاقة ما لا يمكن له أن يدفع بالمُشاهد إلى الشعور بالملل، وهو شكل من أشكال التحدي الخطير للمُخرجة، فقد حرصت على الاهتمام بمشاهد المُحاكمة الطويلة التي أخذت جزءاً كبيراً من وقت الفيلم، إذ كان من المُمكن لها أن تميل بفيلمها إلى الشعور بالتوقف؛ ومن ثم انصراف المُشاهد عن المُتابعة، لكننا لاحظنا أن هذه المشاهد تميزت بالكثير من الرشاقة والجاذبية، الأمر الذي ساعدها في الحفاظ على المُشاهدين.
قاعة المحكمة
يبدأ الفيلم داخل قاعة المحكمة الدولية في لاهاي، حيث نشاهد المُدعي العام الصارم كاثرين- قامت بدورها الممثلة الفرنسية رومان بوهرينجر- القادرة بمهارة على الإمساك بخيوط المُحاكمة وتضييق الخناق حول كريستيتش- أدى دوره المُمثل البلغاري كراسيمير دوكوف- مُجرم الحرب الصربي الذي ارتكب الكثير من الجرائم الإنسانية في البوسنة عام 1992م.
يواجه المُدعي العام/ كاثرين، في هذه القضية، ممثل الدفاع ميخائيل- أدى دوره المُمثل السويدي صموئيل فرولر- الذي تولى مُهمة الدفاع عن كريستيتش؛ لإيمانه القاطع بأن القانون هو المُنظم الأساس للعلاقات بين البشر.
أرض الكراهية
تستعين كاثرين بشهادة ديان، الشاب البوسني في القضية- أدى دوره المُمثل البلغاري الجنسية الأرميني الأصل أوفانز توروسيان- الذي يؤكد أنه كان مُجنداً ومتعاوناً مع كريستيتش في جرائم الحرب التي ارتكبت، ويدعي أنه يتيم الأبوين لا يعرف والديه ولا ديانتيهما، وقد انضم هو والكثيرون من فريق كرة القدم الوطني، الذي كان يلعب فيه، كمتطوعين الى إحدى الحركات شبه العسكرية الصربية، كما أنه أسهم في إشعال بيوت المُسلمين ومساجدهم، وعزل رجال القرية عن نسائها، ثم إطلاق النار على الرجال، ورؤيته للجنود الصرب بقيادة كريستيتش يغتصبون نساء القرية، لكن المُتهم كريستيتش يعترف بهذه الجرائم، في نفس الوقت الذي يؤكد فيه إنكاره معرفة الفتى أو رؤيته له من قبل.
يتشكك الدفاع ميخائيل في شهادة ديان، وحينما تنتهي الجلسة ينفرد به مع المُترجم ليسأله عن صدق ما قاله الفتى، لكنه يؤكد له مرة أخرى أنه لم يره من قبل، ولا يعرفه، ما يثير حيرة الدفاع، ليسأله عن السبب الذي يجعل الفتى يشهد عليه هذه الشهادة؛ فيرد عليه: “الله نفسه سيعجز عن مُساعدتك على الفهم، إنه شيء مُختلف، شيء في دمائنا، لقد ولدنا به، البوسنة هي أرض الكراهية، وأي شخص لا يرغب في الانخراط في هذه الكراهية يصبح شخصاً غريباً.”
مباراة قانونية
لا يمكن إنكار أن ثمة مُباراة قانونية حقيقية بين كل من كاثرين/ المُدعي العام، وبين ميخائيل/ الدفاع، فهي ترى أن المُتهم الصربي مُجرم لا بد من مُحاكمته وسجنه بسبب ما قام به من جرائم، وأن هذه العقوبة لا بد له من أن ينالها بأي شكل من الأشكال لتحقيق العدالة التي تراها، بينما يرى ميخائيل أنه إذا كان لا بد من مُعاقبة المُدعى عليه وسجنه فهذا لا يمكن له أن يجري إلا في إطار القانون، أو الشكل المنطقي للقانون.
يدفع تشكك ميخائيل في شهادة ديان إلى رحلة سافر فيها إلى البوسنة، حيث قرية جلوجوفا، محاولاً من خلالها الوصول إلى حقيقة ديان، وهناك يلتقي بأبيه ألكسندر- قام بدوره الممثل البوسني إزادين باجروفتش- وأمه التي قامت بدورها الممثلة المقدونية لابينا ميتيفسكا، ويسألهما عن وجود ولد لهما؛ فيؤكدان أنهما لم يعد لديهما أموال من أجل دفعها للبحث عنه، لكنه يؤكد لهما أنه لا يرغب في الأموال، بل يرغب في إيصالهما إلى ابنهما، وهنا يطلب من الأب أن يرافقه إلى هولندا من أجل التوصل إلى ابنه والتأكد بأن الفتى هو ابنه بالفعل.
يسافر ألكسندر معه إلى هولندا، ويطلب ميخائيل شهادته في المحكمة، وحينما تبدأ الجلسة ينفي ديان معرفته بالرجل، لكن حينما يوجه القاضي نفس السؤال عن معرفة ألكسندر بالفتى؛ يلتفت إلى ديان ثم يترك كرسيه مُتجهاً إليه ليأخذه في حضنه باكياً؛ فيبادله ديان البكاء. هنا تتأكد المحكمة أن ديان قد كذب بشأن شهادته حينما أكد فيها أنه يتيم، ولا يعرف أبويه، وتُعاد الشهادة مرة أخرى، مع التوصية على إجراء تحليل DNA.
يتضح أن اسم ديان الحقيقي هو ميرو، لأم مُسلمة وأب مسيحي من البوسنة، وأنه كان مسجوناً في سراييفو، وقد زارته مجموعة من الناس ليتفقوا معه على إرساله إلى هولندا- حيث كان هذا هو حلم حياته- في مُقابل شهادة الزور ضد كريستيتش، والتأكيد على أنه كان مُشاركاً له في المذابح التي حدثت في البوسنة، كما عرضوا عليه صوراً وفيديوهات تخص كريستيتش من أجل التعرف عليه في قاعة المحكمة؛ الأمر الذي يجعل شهادته بالكامل غير ذات فائدة؛ لعدم صدقه وادعائه، وهو ما يعيد القضية إلى الصفر مرة أخرى؛ لعدم وجود أي دليل على المذابح أو الجرائم التي قام بها المُتهم.
تصر كاثرين، المُدعي العام، على الاستمرار في القضية مرة أخرى لإدانة كريستيتش، الذي توقن بإدانته، وإن كانت لا تمتلك بين يديها الدليل المادي على هذه الجرائم، لكنها تقول في مُقابلة تليفزيونية لها: “أنا أؤمن بالعدالة العليا للقانون،” أي أنها مُصرّة على إدانة المُتهم مهما كانت الأسباب. في حين يشعر ميخائيل بالكثير من الراحة والاطمئنان لسببين: الأول أنه قد نجح في إعادة الفتى، ابن الثامنة عشرة من عمره، إلى أبوية المكلومين، والسبب الثاني أنه قد نجح في نفي التُهم التي تم توجيهها إلى المُتهم بشكل فيه من الادعاء والباطل ما لا يمكن قبوله، أي أن القانون هو المُنظم الأساس في العلاقات، ومن دون القانون لا يمكن أن تستمر الحياة، أو توجيه أية تهمة باطلة إلى المُتهم حتى لو كان مُداناً بالفعل، ولكن نتيجة لانتفاء الأدلة لا يجب لأحد الحكم عليه بالإدانة.
بالرغم من أن القانون والدستور الهولنديين يسمحان بإقامة الفتى في هولندا للحفاظ على حياته، وبالرغم من أن الإجراء الذي كان لا بد أن يُتخذ هو تسليم الفتى إلى أبيه، إلا أن كاثرين قررت بقسوة ترحيل الفتى من دون توديع والده أو إخباره بالأمر، وكأنها في ذلك تحاول غلق باب هذه الشهادة من أجل الاستمرار مرة أخرى في محاولة إدانة المُتهم، بالرغم من أنها من خلال هذا الفعل تعمل على التضحية بالفتى وتعريض حياته للخطر مُناقضة في هذا الفعل إيمانها بالعدالة، الذي تدعيه دائماً.
تعمل الصحافة على مُهاجمة كاثرين لمُخالفتها الدستور الهولندي في إعادة الفتى وترحيله، واتهامها بالقسوة، مُخالفة في ذلك طبيعتها الأنثوية، لكن كاثرين كانت امرأة تؤمن بالعدالة العظمى- حتى لو لم تكن هناك دلائل قوية-.
تحرص المُخرجة البلغارية إيجليكا تريفونوفا على ختام فيلمها بميخائيل الذي يأخذ أباه إلى حديقة دار الرعاية للمشي، بينما تكتب على الشاشة: أعاد المُدعي العام المُعين حديثاً فتح القضية ضد كريستيتش، الذي أُدين فعلياً، ولا توجد معلومات رسمية يمكن الوصول إليها لمعرفة ما حدث للشاهد K109/ ديان، كما أصبحت القرية البوسنية التي كان يعيش فيها أبوا الفتى مأهولة بالسكان.
من خلال فيلم يسوده الكثير من التشويق ورشاقة المُونتاج، تحرص المُخرجة البلغارية إيجليكا تريفونوفا على التأكيد بأن العدالة الحقيقية لا يمكن تحقيقها بسهولة، فهي تختلف في مفهومها من شخص إلى آخر، وإذا كان مفهوم العدالة بالنسبة للمُدعي العام/ كاثرين، يتحدد في إدانة كريستيتش بأية وسيلة من أجل الجرائم التي قام بها، فإن نفس المفهوم بالنسبة للدفاع/ ميخائيل، ينحصر في سيادة القانون.