الإمام محمد عبده كان يكره العلم في صباه ويعارض الثورة العرابية في بدايتها!

953

ارشيف واعداد عامر بدر حسون /

في 11 يوليو عام 1905 انتقل الامام محمد عبده الى جوار ربه، وهاقد انقضى على وفاته ما يقرب من نصف قرن، ولكن ذكراه ستظل خالدة، كما ستظل تعاليمه المتحررة سراجاً للعقول.
لما بلغ الصغير (محمد عبده) الرابعة عشرة من عمره، نقل الى والده الشيخ “عبده خير الله” قادما من طنطا حيث كان قد ارسله ليواصل الدرس ويستزيد من العلم في المسجد الاحمدي، ولم يكد يستقر به المقام حتى صارح والده بأنه لم يطق حياة العلم في طنطا! فقد امضى عاما ونصف عام يتلقى “شرح الكفراوي” على “الاجرومية” في المسجد، ولكنه لم يستطع ان يفهم شيئاً مما يحاول قراءته فقفل راجعاً لى ابيه الذي ضرب كفاً بكف وهو يقول: “لا حول ولا قوة الا بالله العليم.. ترى ما الذي كرهك في العلم يا ولدي؟ أهي عين حاسد أم مكتوب الوعد؟”
وأطرق الشيخ الوقور طويلاً وهز رأسه مرات، ثم رمق الفتى ” محمد عبده ” بعينيه واستقرت في راسه فكرة لم تمض ايام حتى نفذها، واذا بقرية “شنرا” تحتفل بزفاف “محمد عبده” ولم تمض اربعون يوماً على العريس الصغير حتى تلقى امراً حاسماً من ابيه بالعودة الى طنطا لمواصلة الدرس، لكن الفتى اسقط في يده مرة أخرى، وبدلاً من ان يتجه الى المسجد الأحمدي، اخذ طريقه الى منزل خاله “الشيخ درويش” ملتمساً منه النصح والهداية ازاء شعوره الغامر بكره العلم والعزوف عنه، ولكن “الشيخ درويش” كان واسع الحيلة، ذكي الفؤاد فما زال بالفتى يهدهد افكاره، ويقدم له ما يحب من القراءات، حتى حرك في نفسه الشوق الى المعرفة والرغبة في مساعدة الغير بما تظاهر به امامه من أنه لضعف بصره لا يستطيع ان يقرأ رسائل “المدني في التصوف”، ولم يزل به حتى تناول الفتى الكتاب وقرأ منه، بينما اندفع الشيخ يفسر له معاني ما يقرأ بعبارة واضحة تغالب اعراض الفتى فتغلبه، وهكذا تمكن ذلك الشيخ الصوفي بكياسته وسعة صدره ان يحمل عقدة في نفس الفتى كانت حياته كلها ترزح تحتها، فأقبل على العلم بعد ان كان لا يطيق ان يعيش في جوه! فسارع الى رحاب “المسجد الأحمدي” ثم يمم شطر “الأزهر” الذي صار فيما بعد من أكبر علمائه ومفكريه..
ضد الثورة.. ومعها!
ومضت سنون، وجلس “الإمام” محمد عبده يحدث احمد عرابي باشا وهو يعد العدة للثورة فيقول له: “نحن في حاجة الى التربية والتعليم لتكوين رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية، على بصيرة مؤيدة بالعزيمة والانتاج للصلح، وليس من الحكمة ان تعطى الرعية مالم تستعد له، فلو أن الأمة كانت مستعدة لادارة شؤونها لما كان لطلب ذلك بالقوة العسكرية معنى”.
ولكن عرابي باشا لم يرض عن هذا الكلام.. وهنا يقول التاريخ ان “محمد عبده” اتجه اليه قائلاً بالحرف الواحد: “اقولها لك لأبرئ ذمتي امام الله، فاني لأخشى ان يجر هذا الشغب على البلاد احتلالاً اجنبياً يسجل على مسببه اللعنة الى يوم القيامة”، فيرد عليه عرابي باشا قائلاً: “أرجو ألا استحق هذه اللعنة”.
ولكن “محمد عبده” الذي حذر “عرابي” من الاصطدام بالانجليز، انضم الى صفوف العرابيين في نهاية الأمر، عندما وجد ان المسألة لم تعد مسألة رأي، وإنما اصبحت مسألة حياة او موت بالنسبة للأمة كلها، فأخذ يكتب المواثيق والبيانات العرابية لتذاع على الأمة والدول.
الأهالي ليسوا عبيداً!
ومضت ست سنوات عصيبة على “الإمام” بعد ان اخفقت الثورة العرابية، أبعد اثناءها عن بلاده، وعاد ليتلقاه الوزير المصلح رياض باشا الذي أتاح له ان يلعب دوره المتحرر في الوظائف العامة بنفس اسلوبه المجد وبنفس دفعته الفكرية المحبوبة.. ولشدما كانت دهشة رياض باشا عندما وجد ان “الامام” ينتقد الحكومة في جريدة الحكومة الرسمية التي كان مشرفاً عليها! فلما استجوبه رياض باشا عن هذا الانحراف قال له: “ليس لي من هدف بما أكتب يا باشا غير ان أشبع الحق فيعرفه اصحابه، وأنبه الى الواجب فيؤديه اصحابه”.
وأملى “الامام” منشوراً ليذيعه رياض باشا على المدير بعد ان ذاع عن مدير الشرقية أنه ارسل مئتي رجل لاصلاح ما جرفه السيل من سكة حديد السويس وسخرهم في ذلك دون أجر.
قال الامام في المنشور وكأنه يرسم فيه أسس العدالة الاجتماعية الحقة: “ليعلم المدبرون والمأمورون جميعاً بأن الاهالي ليسوا عبيداً لأحد، ولا لأحد عليهم سلطان الا فيما يتعلق بمنافعهم عامة أو خاصة”.