الارتجال أســاس المسـرح

430

باسم عبد الحميد حمودي

قبل المسرح الجاد كان مسرح الارتجال, ويقول بعض خبراء المسرح إنه بدأ بمناغاة الأم لطفلها, وبإضحاك الإنسان الأول لولده بحركات خاصة مبتكرة ساعة خوفه من عارض مفاجئ, وإن ذلك قد صنع مراناً لارتجال عام!
ويعرف مؤرخو المسرح العراقي أن جعفر أغا لقلق زادة، بالمشاركة مع صاحبه حسقيل أبو البالطوات، كانا يقدمان فصولاً مسرحية ارتجالية ضاحكة على مسارح العاصمة قبيل دخول المطربة لأداء فقرتها الغنائية.
وكان لقلق زادة، الممثل الارتجالي الفكه، يسمى (الإخباري) باعتباره يقدم خبراً ضاحكاً للجالسين، فيه من الحكاية والسرد الارتجالي قدر ما فيه من اللعبة المسرحية.
وكان مصطلح الحكاية قديماً لا يعني فقط السرد القصصي الذي نعرفه اليوم, بل يعني أيضاً أن (الحكاية) تقوم على التشخيص(التمثيل), والتمثيل هنا هو الأداء الارتجالي الهازل الذي تقوم به مجموعة من محترفي المحاكاة.

أيسوب البابلي
أشهر من قدم الرواية الارتجالية واقفاً أمام الحكام والأمراء هو أسوب البابلي العراقي، الذي جال في بلاد الإغريق وسواها، وقدم للناس حكاياته ممثلة بأداء ارتجالي ساحر فيه من العبر ما فيه من جمال المعنى.
وفن المحاكاة
وقد عرف العرب –كغيرهم- فن المحاكاة من الشعوب, وفي ذلك يقول الجاحظ في (البيان والتبيين): “إننا نجد المحاكي من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن من مخارج كلامهم لا يغادر من ذلك شيئاً, وتجده يحكي الأعمى بصورة ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه.”
الجاحظ في هذا يأخذ معنى (حكى) على أنه (مثل)، ويتوضح ذلك في عبارته (يحكي الأعمى), ومن أبرز المحاكين في زمنه (أبو دبدوبة) الزنجي زمن المهدي، و(أبو العبر) زمن الرشيد، و(ابن المغازلي) زمن المعتضد.
ويقوم المحاكي بتجسيد العمل المسرحي الذي يحاكي فيه الشخصيات الحاكمة ليقدمها على هيئة هازلة, أو أصحاب المهن أو (المكدين) في الشوارع أمام الناس ابتغاء رضاهم بعد مرحهم مقابل ما يمنحونه من مال. والظاهر أن هؤلاء المحاكين -كما يقرر المرحوم الدكتور محمد حسين الأعرجي في كتابه (فن التمثيل عند العرب)- كانوا يتلقون تدريباً مسبقاً على الأداء قبيل القيام به.
يقول أبو إسحق القيرواني في كتابه (جمع الجواهر في المُلح والنوادر) “إن من شروط المسامر، أو المنادر-راوي النادرة-، أن يكون خفيف الإشارة لطيف العبارة، طريفاً رشيقاً لبقاً رقيقاً قد لبس لكل حالة لبوسها، يعرف كيف يخرج مما يدخل فيه إذا خاف ألا يستحسن ما يأتيه، وذلك يتطلب تدريباً ذهنياً وجسدياً كبيراً لكي تكون رواية النادرة في مجلس والمحاكاة في مجلس آخر أو أمام الناس في الشارع العام، مما يستهوي السامع والمشاهد(المتفرج).”
ويروي الحريري في (المقامة الحلبية) عن شيخ كان يعلم مجموعة من الصبية الحمق والتحامق, أي يدربهم على تجسيد تلك الحال لإبهار المشاهد. وكان أبو العبر يدرب بعض هواة المحاكاة فينقلون عنه (كتابة) مضاحكه وكلامه وطريقته في الأداء.
ذلك يدفعنا إلى القول إن فن المحاكاة هو جنين التمثيل الموجه الذي يقدم اليوم على المسرح الجاد أو الهازل, وإن فن المحاكاة هو الفن الموازي للتشخيص الارتجالي الذي سبق المسرح الجاد.

بابل والمسرح
إن طقوس المسرح قديمة على هذه الأرض. يقول الدكتور فوزي رشيد -في بحث له معروف- “إن البابليين عرفوا فن المسرح قبل سواهم من أثينيين وقرطاجيين، وإنك لتجد، مجسداً، بناء المسرح البابلي القديم، وإنهم كانوا قد أجادوا عرض مشاهد تموز وعشتار في شهر آذار, لكننا لا نتحدث هنا عن جذور وتفاصيل المسرح قدر ما نتحدث عن قدرة إنسانية تجسيدية قديمة.”

مسرح الأثل الارتجالي
في فضاء البصرة الجميل، وفي أيام الربيع، كانت العائلات تخرج الى منطقة (الأثل) القديمة، أو بعيداً الى براري البصرة, حيث يسهرون ويسمرون, ويجري نصب أعواد المسرح الارتجالي الضاحك، إذ يختص فريق من أهل الفكاهة والمرح بتقديم فصول مسرحية ارتجالية ضاحكة لتسلية الناس في وقت سمرهم.
وقد اختص آخرون، في مدن أخرى، لتقديم فصول ضاحكة ارتجالاً في أعياد الربيع وسواها, يعتمدون في منادمتهم المسرحية على الطرفة والمفارقة الدرامية, إذ تجد في كل مدينة مجموعة من الممثلين الهواة يقدمون هذا اللون من الأداء الارتجالي الضاحك الذي جسده الآخرون في الزمان وأمكنة آخرى.