البعد الإنساني في خطاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

361

د. هاشم العوادي/

تعد حقوق الإنسان واحدة من القضايا التي برزت على مسرح الأحداث السياسية منذ بدايات القران الماضي، وتبلور شكلها القانوني عام 1948 بعد صدور لائحة حقوق الإنسان عن الأمم المتحدة، وهي اللائحة التي جاءت لتعالج الآثار الإنسانية، والانتهاكات التي خلفتها الحربان العالميتان الأولى والثانية تجاه المدنيين والعسكرين.
يشير سياق التأصيل التاريخي (غربياً) لوثائق حقوق الإنسان إلى إعلان حقوق الإنسان في الولايات المتحدة (إعلان فرجينيا) 1776م، وإعلان الثورة الفرنسية 1790م، وربما يذهب البعض الى تأصيله منطلقاً من إعلان الـــ “ماجنا كارتا” الصادر عن الملك الإنجليزي جون 1215، الذي جرى بواسطته تنظيم العلاقة بين الملك والشعب الإنكليزي ومنحه جملة من الحقوق. وقد تضمنت لائحة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة أكثر من ثلاثين مادة تناولت جملة من الحقوق الأساسية التي ينبغي المحافظة عليها وحمايتها وعدم المساس بها، سواء على مستوى الحقوق الإنسانية، أو السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو الثقافية، وغيرها.
أما على مستوى المنظومة الإسلامية، فقد استطاعت أن تسجل سبقاً تاريخياً عن المنظومة الأوروبية، ورسمت ملامح وثيقة عالمية لحقوق الإنسان تتضمن العديد من المبادئ الإنسانية التي تؤكد محورية الإنسان في الرؤية الإسلامية، ومؤكدة لعمومية هذه الرؤية وشموليتها وتجاوزها حدود التمايز في النوع الإنساني، لذا أكدت -في بعض تشريعاتها- على أن التجاوز على هذه الحقوق، كحق الحياة مثلاً، يعد من الكبائر، قال تعالى (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا). وفي بعض خطب الإمام أمير المؤمنين (ع) قوله (الكبائر الكفر بالله، وقتل النفس). وأن القرآن الكريم تعامل مع النفس الإنسانية الواحدة بمنزلة المجموع، قال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). وقد شكلت عملية إدراك النفوس المؤمنة لهذا الحق حاجزاً ذاتياً عن التجاوز عليه، كما جاء في قوله تعالى (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) .
وعندما نحاول قراءة موروث الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الخطابي ندرك أن بناء الإنسان كان من أولويات هذا الخطاب، وأنه تضمن العديد من الأسس والمبادئ التي يمكن اعتبارها أصولاً معرفية لمشروع وثيقة علوية في حقوق الإنسان، تستجيب لواقعها من دون التخلي عن ثوابتها، ومترجمة لعالميتها وشموليتها، وثيقة تتضمن العديد من الحقوق التي ينبغي أن يتمتع بها الإنسان في الرؤية الإسلامية، التي من أبرزها:
1- حق الإنسان في الحياة
أشار الإمام أمير المؤمنين (ع) الى هذا الحق من خلال اعتراضه على حكم الرجم الذي أصدره الخليفة الثاني بحق امرأة حامل، منبهاً الى أن تنفيذ الحكم ــــ في هذه الحالة ـــــ سيؤدي الى سلب الجنين حقه في الحياة، قائلاً: “هب أنّ لك سبيلاً عليها، أيّ سبيل لك على ما في بطنها والله تعالى يقول (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)” فقال عمر: لا عشتُ لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن، ثمّ قال: فما أصنع بها؟ قال(ع): “احتط عليها حتى تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم عليها الحدّ.”
2- حق المساواة
انسجم خطاب الإمام أمير المؤمنين (ع) في حق المساواة بين العباد مع المنطق القرآني في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير). وقد أكد الإمام هذا المعنى في كتابه الى واليه محمّد بن أبي بكر على ضرورة المساواة بين الرعية في أدق التفاصيل حتى في النظرة واللحظة، لكي لا يشعر أحد منهم بأنه أقل منزلة من غيره، قال (ع): “فاخفض لهم جناحك، وألِن لهم جنابك، وابسُط لهم وجهك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضُعفاء من عدلِك عليهم.”
3- الحقوق الاقتصادية
تشير خطب الإمام (ع) الى ضرورة العدالة في توزيع الموارد لمنع الطبقية، يقول الإمام (ع) في مسألة تقسيم الأموال بين المسلمين ” لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللهِ لَهُمْ. أَلاَ وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ.” وقد ضرب الإمام (ع) في عدله أروع مثال عندما رفض أن يمنح أخاه عقيلاً شيئاً من بيت المال حين جاءه يشكو إليه الحاجة، فما كان منه إلا أن أحمى حديدة وقربها من يد أخيه الذي كان كفيفاً، فلما أحس عقيل بحرارة الحديد سحب يده مستغرباً من تصرف الإمام، فأجابه (ع) ” ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، يَا عَقِيلُ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أَتَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظىً.”
4- حق الأمة على حاكمها
وهو أحد الحقوق السياسية التي تناولتها كلمات الإمام (ع) في العديد من النصوص وأبرزها عهد الإمام (ع) الى مالك الأشتر عندما ولاه على مصر، مؤكداً على ضرورة التواصل مع الرعية والوقوف على واقعهم وعدم الاكتفاء بما يصله عن طريق عماله، قال (ع): “ولاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْم بِالأمُورِ; وَالاِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الأمُورِ. ”
5- حق المعارضة
وهو أيضاً من الحقوق السياسية التي ترسم العلاقة بين الحاكم وخصومه، عاداً المعارضة نوعاً من أنواع حرية الرأي، لا يمكن للحاكم توظيفه لسلب الحقوق من معارضيه واستهدافهم سياسياً او اقتصادياً او غير ذلك. وفي هذا نقرأ أنه جاء رجل إلى الإمام فقال له: “أنا لا أتابعك ولا أبايعك ولا أخرج معك في وقت، ولا أصلي معك جمعة أو جماعة،” فأجابه الإمام (ع) “وأنا لا أجبرك على شيء من ذلك ولا أمنع عنك الفيء وأسالمك ما سالمت المسلمين.” وفي رواية أخرى أن الإمام (ع) أجابه “اجلس في بيتك وعطاؤك يصل إليك من بيت المال، ما زال الناس مِنْك بأمان.”
6- اعتماد أسس التفاضل الشرعية
وضع الإمام (ع) قواعده الخاصة في التفاضل بين أفراد المجتمع أمام الحاكم، وكان الإمام (ع) يوصي عماله بضرورة احترام هذه القواعد وتطبيقها، قال (ع): “ولا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإحْسَانِ فِي الإحْسَانِ، وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإسَاءَةِ عَلَى الإسَاءَةِ.” وهي رسالة بالغة، ليس الى الحاكم فقط، وإنما الى أفراد المجتمع من أجل ترغيبهم في العمل العام وتقديم الخدمة العامة.
7- حماية المنتج والمستهلك
تعرض الإمام (ع) الى جملة من الحقوق الاقتصادية، ومنها ضرورة حماية القطاعات المهنية التجارية والصناعية في الدولة، لأنها الأعمدة الساندة لوجود الدولة، وقد جاء (ع) الى مالك الأشتر موصياً إياه بالتجار وأهل الصناعات والحرف، ومحذراً من خطرهم في أوقات الأزمات قائلاً: “ثمّ استوص بالتجار وذوى الصناعات وأوص بهم خيراً …. فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك …… وتفقد أمورهم بحضرتك وفى حواشي بلادك. واعلم ـ مع ذلك ـ أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع ، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً: بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع.”
8- تكافؤ الفرص
وهو من الحقوق المهمة التي يتساوى فيها الناس في تنافسهم على تولي الوظائف العامة، وقد أشار الأمام (ع) في عهده لمالك الأشتر الى هذا الحق بقوله: ” ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم في الحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء.”
9- حق الرعاية الاجتماعية
على مستوى الحقوق الاجتماعية، نجد أن الإمام علي (ع) يضعنا أمام منظومة تشريعية وقانونية تؤمن من خلالها جميع الحقوق الاجتماعية لأفراد المجتمع، إذ أن الإمام (ع) يؤمن بأن “لكلِّ ذي رمَقٍ قوتٌ”، وقد أكد (ع) في عهده لمالك الأشتر، على رعاية العاجزين عن العمل من الأطفال والشيوخ والمسنين قائلاً: ” ثمّ اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى …… واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلاّت صوافى الإسلام في كل بلد.”
إن هذه النماذج من الحقوق الإنسانية التي أكد عليها الإمام أمير المؤمنين (ع) تنطلق من البعد الإنساني في المنظومة الإسلامية، الذي ترجمه بمقولته الشريفة التي باتت إحدى شعارات الأمم المتحدة: “الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق”.. تؤسس الى لائحة لحقوق الإنسان ووثيقة يمكن أن تكون أكثر شمولية وواقعية من غيرها من اللوائح والمواثيق، لأنها تنطلق من مرجعيات سماوية، تتعامل مع الإنسان على أنه خليفة الله في أرضه، وأنه الغاية في هذا الخلق.