البياتي قبل رحيله بأيام: لم اعد أخشى الموت!

620

جمعة الحلفي/

مرت قبل أيام الذكرى السابعة عشرة لرحيل الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي .. هذه مادة في استذكاره:

في مطلع العام 1998 زرت الأردن حاملا دعوة من رئيس الجمهورية العربية السورية (الراحل) حافظ الأسد، الى الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي. وكان مضمون الدعوة استضافة البياتي مدى الحياة في سوريا.

التقيت بـ (أبو علي) في بيته الصغير الأنيق في جبل عمان، وأبلغته الدعوة شفاها كما حملني إياها الصديق الراحل فاضل الأنصاري رئيس مكتب شؤون العراق في القيادة القومية، وهي كالتالي: (رئيس الجمهورية العربية السورية حافظ الأسد يدعوك، أنت وعائلتك الكريمة، للإقامة والعيش في بلدك سوريا، مدى الحياة معززا مكرما بضيافة الدولة السورية) شعر البياتي بسرور غامر لكنه لم يظهره بالوضوح المطلوب وهي ميزة تشي بنرجسية البياتي المعروفة.

سألني، بعد أن جلب لي الشاي والكعك بيده، هل تشمل الدعوة حفيدتي إذا أخذتها معي وهل يمكن تسجيلها في المدرسة. قلت له هذا من تحصيل الحاصل فأنت وعائلتك ضيوف الرئيس وكل ما ستطلبه سيكون موضع ترحيب بلا شك.

بعد أيام قليلة جاء البياتي الى سوريا وكان في استقباله على الحدود في محافظة درعا ووكيل وزارة الثقافة السورية الدكتور علي القيم والصديق الراحل فاضل الأنصاري والشاعر محمد مظلوم والصديق المغدور الدكتور أحمد الموسوي.

لم أكن ضمن المستقبلين إنما كنت أنتظر الجميع في الشقة التي خصصت للبياتي في منطقة المزة فيلات الراقية وكانت فخمة وكبيرة لا ينقصها أي شيء. سألني أبو علي بعد أن حط رحاله ورتبنا له حقائبه وأغراضه، هل هناك سيارة أو سائق مخصوص لتنقلاتي فقلت له نعم غدا ستأتي سيارة تليق بمقامك مع سائق سيقيم عندك ليلا ونهارا فقط. فضحك أبو علي مسرورا.

كي أوضح أي التباس أقول أنني كنت حينها نائبا لرئيس المنتدى الثقافي العراقي في سوريا وكان رئيس المنتدى هو الدكتور الأنصاري، عضو القيادة القومية ورئيس مكتب شؤون العراق. وقد حملت الدعوة للبياتي بصفتي الشخصية والمهنية هذه.

بعد أيام من وصوله بدأ البياتي بكتابة قصيدة عن دمشق وقرأ لنا بعضا من أبياتها. كنت حينها اعمل في القسم الثقافي لصحيفة الثورة (الدمشقية) فأخبرت سكرتير القسم الصديق مفيد خنسة بذلك كي تكون القصيدة من نصيب الجريدة فطلب مني أن ابلغ البياتي رغبتهم بإجراء حوار موسع معه، ثم قال لي من طرف خفي ما معناه أن من الضروري أن تتضمن قصيدة البياتي عن دمشق شيئا عن الرئيس حافظ الأسد فتفاجأت بالطلب.

أخبرت البياتي في اليوم التالي، على قاعدة أن ناقل الكفر ليس بكافر، فرفض ذلك من دون أي تردد وقد تضامنت معه وقلت له حينها، ربما لم يكلف السيد مفيد خنسة أي مسؤول بذلك لكنه يريد أن يتملق ليس أكثر فوافقني البياتي، ونشرت القصيدة بعد أيام في جريدة الثورة السورية وهي مهداة الى الشام وحدها ومكتوبة عن الشام فقط.

بعد استقرار البياتي في شقته الراقية في المزة فيلات، كانت تأتيه يوميا وجبات طعام خاصة من مطبخ ديوان الرئاسة السورية لكنه كان يعبر لنا عن رغبته وحاجته الى طعام عراقي، فكنا نعد له طبخات الباميا والفاصوليا اليابسة والدولمة في بيوتنا ونأخذها الى شقته.

في جلسات خاصة وحميمة كان البياتي يتألق إنسانيا وشعريا، فيقرأ لنا قصائده بفرح غامر ويحدثنا عن ذكرياته ببراءة طفل. وبعد الثانية عشرة مساء يكون قد (ثقل العيار) وبدأ يشخر وهو جالس على الكرسي ونكون قررنا، محمد مظلوم وأنا، غالبا، من الذي سيبيت مع البياتي في الشقة، احتياطاً لأي مكروه. وكان مظلوم مظلوما في هذه النقطة على الدوام.
كنا نذهب في المساء الى مطعم في منطقة باب توما الشهيرة في الشام اسمه قصر البلور. وكان هناك دائما مجموعة من الأصدقاء والمريدين للبياتي وهو يعرف أن هؤلاء لا يمكنهم دفع فاتورة طاولة يتناوب الجلوس عليها من خمسة الى عشرة أشخاص يوميا عدا المعنيين الثلاثة أو الأربعة من المقربين إليه.

من خلال معايشتي له تأكدت أن البياتي لم يكن يمتلك ثقافة نظرية عميقة بحجم مكانته الشعرية الرائدة. كانت ثقافته حسية وشفوية تستند الى تجربته الحياتية الثرة في العلاقات العامة والسفر ومعاصرة ومعرفة العديد من الأدباء الكبار في العالم.
بمعنى آخر لا يمكن مقارنة ثقافة البياتي بثقافة نظراء له مثل الشاعر السوري أدونيس أو سعدي يوسف أو بلند الحيدري أو فاضل العزاوي. والسبب، في اعتقادي يعود الى عاملين أساسيين الأول عدم معرفته بلغات أخرى غير العربية وشيء من الأسبانية، والثاني انشغاله بالحياة اليومية وشغفه بالسهر الدائم واستناده الى نجوميته، الأمر الذي لم يترك له فرصة للتأمل في الثقافة النظرية. لكن البياتي كان ذكيا وحاذقا في معرفة الناس من حوله. ولم يكن يخفي وجهة نظره، القاسية خصوصا، بهذا أو ذاك من نظرائه أو من مريديه. كان يسخر من السياب، كلما جاء ذكره، وكان يعتبر سعدي يوسف شاعر محافظات أقام مجده على أكتاف الحزب الشيوعي، مع أنه كان متهما بالتهمة ذاتها من قبل السياب.

سألته مرة عن رأيه بأدونيس فقال لي هذا دجال ثقافة همه الوحيد الحصول على جائزة نوبل حتى لو جاءته من تل أبيب. وقد سمع جليس ثالث عبارة البياتي فأوصلها الى رئيس اتحاد الأدباء العرب حينها (علي عقله عرسان) فسجلها الأخير في مفكرته الخاصة كما قال الجليس. وبعد وقت قصير فصل أدونيس من اتحاد الكتاب السوريين بتهمة الترويج للتطبيع مع إسرائيل.

لم اسمع من البياتي كلمة مديح لشاعر عراقي أو حتى عربي وإذا ما تحدث عن شاعر، في معرض المديح، يقول عنه كان من أولادي أو تلاميذي (خوش شاعر)

أوصى البياتي في مقابلة صحفية، عندما كان في الأردن، أن يدفن، إذا ما توفى، في مقبرة تضم رفات المتصوف الكبير الشيخ محيي الدين بن عربي وهي تقع على حافة جبل قاسيون بدمشق وقد تحقق له ذلك.
وكما عرفت وقتها من الصديق الراحل الدكتور فاضل الأنصاري فأن عبارة البياتي هذه كانت السبب في الدعوة الرئاسية التي وجهت له فيما بعد.

سألت البياتي، وكنت أجريت معه حواراً مطولاً لصحيفة الحياة اللندنية، عن موقفه من الموت فقال لي حينها (أنا لم اعد أخشى الموت!) وكان ذلك قبل وقت قصير من وفاته.

عاش البياتي الأشهر الأخيرة من حياته في دمشق، ليموت فيها ويُدفن حسب وصيته في مقبرة الشيخ مُحيي الدين بن عربي، وذلك في 3 آب/ أغسطس 1999.