التشكيلية فاطمة أسبر مجازات اللون والتكوين

652

 سوزان المحمود /

يقول بول فاليري في “تأملات في الفن”:
“.. كل ما يستطيعه الفنان هو أن يهيئ شيئاً ما من شأنه أن يولد في فكر شخص غريب نوعاً من التأثير، ولكن لن نجد أبداً وسيلة تسمح لنا بالمقارنة بين ما يحدث في فكر كل منهما.
بل هناك أكثر من ذلك. فلو أن ما يحدث في فكر الواحد منهما، ينتقل بصورة مباشرة إلى الثاني لانهار الفن بأجمعه ولانعدمت كل تأثيراته. لذلك يجب أن يتوسط عنصر جديد لايمكن اختراقه من شأنه أن يؤثر على الغير كيما يتحقق تأثير الفن بأكمله، وكيما يتحقق أيضاً ذلك العمل الذي يتطلبه انتاج الفنان من الشخص المتأثر. إن الخالق الحقيقي هو ذلك الذي يدفع إلى الخلق.”
وهذا ما تفعله الدكتورة فاطمة أسبر في معظم أعمالها، وفي معرضها الأخير في المركز الثقافي العربي في أبي رمانة في في دمشق ربيع 2019. وهو معرضها الفردي الثالث والذي أقامته تحت عنوان “فضاءات لونية”، فعلى الرغم من قصر تجربتها التشكيلية التي تكثفت خلال سنوات الحرب الأخيرة إلا أنها قطعت شوطاً في التجريب وفي تطور التقنية وتبلور الرؤية، فالمتتبع لتجربة الفنانة منذ معرضها الأول في غاليري النحات مصطفى علي في ربيع 2018، وحتى اليوم يستطيع أن يلاحظ التطور في التجربة اللونية والتقنية في تنفيذ اللوحات ويستطيع أن يتلمس الجهد الكبير وراء هذه الأعمال المقدمة أخيراً من حيث التكثيف الشعوري حيناً وقوة الإيحاء حيناً آخر، وبداية تشكل ملامح شخصيتها الفنية الخاصة، فهي تختبر وتجرب في اللون والمادة في كل لحظة، وهي تقدم هنا عوالمها الخاصة وتدع للمتلقي متعة الاكتشافات المتنوعة، فأسبر التي انتقلت منذ فترة وجيزة من عالم الكلمة (وهي شاعرة ودكتورة في نقد الشعر الحديث) إلى عالم اللون والتشكيل البصري تستنفر مخزونها المعرفي جميعه من الشعر والأدب ومن الذاكرة البصرية القديمة البكر التي لاتزال تحتفظ بها من بيئتها الطبيعية والثقافية الأولى في قريتها (قصابين) التي لايزال اللون الأحمر يرافقها بقوة من تأثيرات مشاهدات طفولتها لزهور شقائق النعمان في ربوع قريتها، أيضاً التأثيرات الشعرية والأدبية العميقة في شخصيتها من حضور والدها الذي كان شاعراً وأخيها الشاعر والمفكر المعروف عالمياً أدونيس والذي تأثرت بتجربته وعوالمه الشعرية كثيراً.
تنتج أسبر لوحة تليق بمتعة المتلقين على اختلاف مشاربهم، فعدد من لوحات معرضها الأخير يقدم لك مفاتيح لقراءات متعددة ومجازات لونية وتكوينية وكأنها بوابات لعوالم آخروية تدعوك للتأمل، وقد نجحت الفنانة في خلق المسافة الضرورية بين المتلقي و العمل الفني تلك المسافة الخصبة بالتأويلات خلف المشاهد البصرية المنفذة الغنية بالدلالات.
نلاحظ في عدد من لوحاتها الروح الأنثوية الواضحة، ذات الحضور اللطيف والرمزي الذي يميل للتلميح ويبتعد عن المباشرة وكأنه يؤثث لتأنيث كوني مجازي، كما نلاحظ حضور الطبيعة ممثلاً برموز عدة منها رمز الشجرة التي ترد في أكثر من لوحة محملة بكمّ من الدلالات الصوفية والمعرفية والرؤيوية المزروعة بين فضاءات الأصفر والأزرق والأخضر بينما يتميز جسدها بجذعٍ يميل للأزرق المائي وإكليلٍ يميل للأحمر الترابي بينما نجد بقربها طيفاً لشجرة أخرى تنتمي لعالم آخر، بينما في لوحة أخرى نجد الشجرة بجذعها الأسود وإكليلها الأحمروامتدادها السفلي الذي يميل للأحمر. تقف في فضائها الخاص وبقربها فضاء كائن آخر يميل للبنّي القاتم. وهناك أيضاً الجداول ومايحيطها من مساحات لونية طقسية مابين الحار والترابي والبارد تنتج بيئة خاصة تحيل المتلقي الى صيرورة الزمن. أيضاً هناك لوحات الطبيعة الصامتة التي تحضر بقوة لكنها تبتعد عن التصوير التقليدي المباشر المتعارف عليه، حيث يمكننا أن نرى أثر الأزهار وأغصانها وعلائقها اللونية أكثر مما نرى الأزهار نفسها في المزهرية، والمزهرية الخضراء نفسها التي تبدو كغصن عظيم يمسك كل ما في الأعلى، إنها تبحث عن أثر الأشياء والكائنات أكثر مما تبحث عن الأشياء ذاتها. فما يهمها هو الأثر وما يتركه في الوعي، إن ماتقدمه هنا تجريد يميل للتعبيرية أحياناً وللمشهدية الغرائبية البسيطة أحياناً أخرى. كما لاحظنا عدداً من اللوحات ذات الطابع التجريدي البحت والذي شكلت فيه الاضاءة عنصراً مهماً لإظهار التكوينات واعطائها تأثيراً فعالاً على المتلقي.
ومما يحسب للفنانة جرأتها في تجريب تقنيات متعددة متاحة لتعبر عن أفكارها، فقد أقدمت أسبر في تجربة سابقة على تنفيذ بعض اللوحات الفنية في مجموعات ثلاث على الحاسب بواسطة تقنية الوامض الضوئي أنتجت مشاهد بصرية معبرة ومميزة، ما أكسب عملها شعبية وجاذبية كبيرة بين الشعراء الذين أغوتهم التجربة وأخذوا هذه الأعمال الصغيرة كغلاف لمجموعاتهم الشعرية.
الدكتورة فاطمة أسبر لم تدرس الفن التشكيلي دراسة أكاديمية بل اعتمدت على موهبتها الفطرية وعلى مخزونها الثقافي والتصويري والتمرين الذاتي والتعلم من تجارب الآخرين خاصة الفنانين السوريين المعروفين المؤسسين الذي كان واضحاً اشتراكها معهم وتأثرها بهم في بعض أعمالها في معرضها الأول وهي لا تفوت معرضاً لأحد زملائها، مثابرة، ومجتهدة، ومتفتحة، وجادة بالاطلاع على جميع التجارب الفنية التي تحيط بها، وعلى الرغم من أن رحلتها مع اللون والتشكيل بدأت متأخرة إلا أنها قطعت أشواطاً تحسب لها. وكونها فنانة مثقفة مجتهدة قلقة لها هاجسها الإبداعي وتجربتها لاتزال في بداياتها يُنتظر منها الكثير .