التمثيل الارتجالي عبر الزمان والمكان
#خليك_بالبيت
باسم عبد الحميد حمودي/
يعرف مؤرخو المسرح العراقي أن (جعفر أغا لقلق زادة)، بالمشاركة مع (حسقيل أبو البالطوات)، كانا يقدمان فصولاً مسرحية ارتجالية ضاحكة على مسارح العاصمة الغنائية قبيل دخول المطربة لأداء فقرتها الغنائية.
وكان لقلق زادة، الممثل الارتجالي الفكه، يسمى (الإخباري) لأنه يقدم خبراً ضاحكاً للجالسين فيه من الحكاية والسرد الارتجالي قدر ما فيه من اللعبة المسرحية.
وكان مصطلح الحكاية قديماً لا يعني السرد القصصي الذي نعرفه اليوم فقط, بل يعني أيضاً أن (الحكاية) تقوم على التشخيص (التمثيل), والتمثيل هنا هو الأداء الارتجالي الهازل الذي تقدمه مجموعة من محترفي المحاكاة.
أيسوب البابلي
إن أشهر من قدم الرواية الارتجالية واقفاً أمام الحكّام والأمراء هو (إيسوب البابلي)، العراقي الذي جال في بلاد الإغريق وسواها وقدم للناس حكاياته ممثلة بأداء ارتجالي ساحر فيه من العِبَر ما فيه من جمال المعنى.
فن المحاكاة
وقد عرف العرب فن المحاكاة كغيرهم من الشعوب, وفي ذلك يقول الجاحظ في (البيان والتبيين): إننا نجد المحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن من مخارج كلامهم لا يغادر من ذلك شيئاً, وتجده يحكي الأعمى بصورة ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه.
الجاحظ في هذا يأخذ معنى (حكى) على أنه (مثّلَ)، ويتضح ذلك في عبارته (يحكي الأعمى), ومن أبرز المحاكين في زمنه (أبو دبدوبة) الزنجي زمن المهدي العباسي، و(أبو العِبَر ) على أيام الرشيد، و(ابن المغازلي) على عهد المعتضد.
ويجسِّد المُحاكي العمل المسرحي الذي يحاكي فيه الشخصيات الحاكمة ليقدمها على هيئة هازلة, أو أصحاب المهن أو (المكدّون) في الشوارع أمام الناس ابتغاء رضاهم بعد مرحهم مقابل ما يمنحونه من مال.
والظاهر أن هؤلاء المحاكين – كما يقرر المرحوم الدكتور محمد حسين الأعرجي في كتابه (فن التمثيل عند العرب)- كانوا يتلقون تدريباً مسبقاً على الأداء قبيل القيام به.
يقول أبو إسحق القيرواني في كتابه (جمع الجواهر في المُلَح والنوادر): “إن من شروط المُسامر والمُنادر- راوي النادرة- أن يكون خفيف الإشارة لطيف العبارة طريفاً رشيقاً لبقاً رقيقاً قد لبس لكل حالة لبوسها يعرف كيف يخرج مما يدخل فيه إذا خاف ألا يستحسن ما يأتيه.”
ذلك يتطلب تدريباً ذهنياً وجسدياً كبيراً لكي تكون رواية النادرة في مجلس والمحاكاة في مجلس آخر أو أمام الناس في الشارع العام مما يستهوي السامع والمشاهد (المتفرج). ويروي الحريري في (المقامة الحلبية) عن شيخ كان يعلِّم مجموعة من الصبية الحمق والتحامق, أي يدربهم على تجسيد تلك الحال لإبهار المشاهد.
وكان (أبو العِبَر) يدرب بعض هواة المحاكاة فينقلون عنه كتابة مَضاحكه وكلامه وطريقته في الأداء.
ذلك يدفعنا إلى القول إن فن المحاكاة هو جنين التمثيل الموجّه الذي يقدم اليوم على المسرح الجاد أو الهازل, وإن فن المحاكاة هو الفن الموازي للتشخيص الارتجالي الذي سبق المسرح الجاد.
بابل والمسرح
إن طقوس المسرح كانت قديمة على هذه الأرض، يقول الدكتور فوزي رشيد، في بحث له معروف، إن البابليين عرفوا فن المسرح قبل سواهم من أثينيين وقرطاجيين، وإنك لتجد مجسداً بناء المسرح البابلي القديم, لكننا لا نتحدث هنا عن جذور المسرح وتفاصيله قدر ما نتحدث عن قدرة إنسانية تجسيدية قديمة.
مسرح الأثل الارتجالي
في فضاء البصرة الجميل، وفي أيام الربيع كانت العائلات تخرج إلى منطقة (الأثل) القديمة، أو بعيداً إلى براري البصرة, حيث يسهرون ويسمرون, ويجري نصب أعواد المسرح الضاحك الارتجالي حيث يتخصص فريق من أهل الفكاهة والمرح بتقديم فصول مسرحية ارتجالية ضاحكة لتسلية الناس في وقت سمرهم.
وقد تخصص آخرون في مدن أخرى بتقديم فصول ضاحكة ارتجالاً في عيد الربيع وسواه, يعتمدون في منادمتهم المسرحية على الطُّرفة والمفارقة الدرامية, وأنت تجد في كل مدينة مجموعة من الممثلين الهواة يقدمون هذا اللون من الأداء الارتجالي الضاحك الذي جسده الآخرون في أزمان وأمكنة أخرى.
النسخة الألكترونية من العدد 362
“أون لآين -5-”