الحب في زمن كورونا

866

#خليك_بالبيت

رجاء خضير/

صحراء الحياة قد تبتل حينما تمرُّ فوقها غيمة ممطرة ولكن ارتواءها ليس له نهاية، فرمالها عطشى لسنين مضت، وها هي بانتظار منْ يسقيها لتعود من جديد تنبض بربيع تأخر عن موعدهِ وأينعت أزهاره وتلوّنت بسنوات عمرها، وداعبها الأمل والتفاؤل وابتسمت للحياة ومدّت يداً لتصافح يداً قابلتها في صحراء الحياة….
قد يمضيان معاً….. وقد!!!
قالت بهمس خوفاً من أمها: أطلبي من أمي أن تغادر الغرفة قليلاً كي أقصَ لكِ حكايتي التي أرقدتني هنا….
تمّ لها ما أرادتْ فقالت: بعد تخرجي من الجامعة عملتُ في إحدى الدوائر التابعة لوزارة الصحة، ولأخلاصي بعملي وسيرتي الجيدة ترقيتُ بسرعة في السلم الوظيفي، بل أصبحتُ معروفة وسط دائرتي مما جعل المدير العام يطلبني للعمل بمكتبه، وكانت هذه أمنية الكثيرات من رفيقات العمل، وانتقلت إلى هناك وعملتُ بجدٍ وأخلاص، كانت مهارتي في العمل وبقائي ساعات بعد أوقات الدوام الرسمي موضع تقدير لدى المدير العام، حصلتُ على كتب شكر عديدة ومكافآت وهذه أثارت عند بعض الزملاء الغيرة والحسد وعند الزميلات كذلك، كنت الأحظ ذلك وأسمع ما يقولونه عني، كنت لا أبالي بذلك، في يوم جاء ضيف إلى المدير وطلب مني أن أخبره باسمه فله موعد معه، وأخبرت المدير بأن و.(!) قد حضر، هبّ المديرُ واقفاً وطلب إدخاله فوراً، واغلقتُ الباب وقد مكث عنده ساعات طويلة، بعدها خرج وسلّم عليّ، نظراته كانت تخترقني بشكل لافت للنظر: بعد ذهابهِ فكّرتُ فيه… ترى مَنْ يكون هذا الشاب الجميل: ولِمَ كلُ هذا التأخير عند المدير…. وانتبهتُ على نداء المدير دخلتُ عليه لأسمع ما يريد…قال و..(!).
يقصد هذا الضيف سيأتي بين فترة وأخرى فهو يمثل (!) ومن حقّهِ الاطلاع على ملفات معيّنة قد يطلبها منكِ:
لا أعرف لماذا شعرتُ بسعادة وقتها: ومن يومها لم يفارقني طيفه الجميل… مرّت الأيام ولم يعد، حاولتُ مراراً السؤال عنه من المدير، وأتردد خشية من ردهِ وأسكت….
وحينما فقدتُ الأمل بمجيئه مرّة ثانية، تعلّلتُ بالملفات التي أشار اليها المدير وقلت: (أستاذ هل أحفظ الملفات التي أراد و.(!) رؤيتها أم لا) أجابني باختصار: اتركيها بمكانها، قد يكون مشغولاً بهذا الوباء اللعين، فهو مختص بهذا النوع من الفايروسات.
إذن انشغالهِ منعه من العودة مرّة أخرى، لم يطل انتظاري بعدها، فقد أتى مرّة ثانية، ومن حسن حظي أنّ المدير لم يكن موجوداً، لذا فقد قمتُ بتوفير ما يحتاجه من ملفات، وطلب مساعدتي وعملنا معاً لساعات طويلة وحتى بعد عودة المدير، فقد طلب (!) أن أبقى أنا لمساعدته وعملنا نحن الثلاثة على الملفات، بين آونة وأخرى كنتُ أحسُ أنّه يراقبني أو ينظر صوبي وتشجّعت ورفعت نظري اليه لأجده شارداً بوجهي، هربتُ من نظراته إلى الأوراق التي بين يدي… بعد فترة من العمل أنهينا كل ما أرادهُ، شكر المدير وشكرني بشكل خاص لكل الجهود التي بذلتها من أجل إعداد التقرير وعند الباب همس بأذني: (انتظري مني اتصالاً) وخرج ليتركني بحيرة ليس لها قرار، وفكّرتُ طويلاً باحتمالات اتصالهِ، هل أعُجب بي حقاً: هل يفكّر بالتسلية: و…و..
رنّ هاتفي ليلاً ليقول لي: (عرفتُ كل شيء عنكِ وخلال هذه الفترة البسيطة تأكدتُ أنّك إنسانة محترمة ومن عائلة حميدة)، ودار نقاش طويل بيننا وأزيحت الحُجب والمخاوف التي كانت تراودني حينما أفكر فيه… إذن مشاعره تجاهي هي نفس مشاعري نحوه، وأكد لي أنّه لولا انشغالهِ بما يعانيه الوطن من هذا المرض اللعين لاستطعنا أن نتقابل ونتعرّف على بعضنا أكثر، ولكنّ سفري المتكرّر إلى المحافظات للاطلاع على سير الإصابات وكيفية علاجها وشفائها هو المانع الوحيد لعدم لقائك.
أغلق الهاتف ليفتح لي أبواب السعادة والأمل وكل شيء جيد أفكّر فيه، إذن صحراء حياتي ستتبدل إلى ربيع دائم، وأحقق ما حلمتُ به أنا وأمي التي اهتمت بيّ بعد وفاة والدي وأنا طفلة رضيعة، من يومها نذرت نفسها لرعايتي فقط!!
كنت انتظر اتصاله بشوق كبير ولهفة للقائهِ في المكتب ولكنه لم يأتِ، لاحظ مديري اهتمامي بــ (!) من كثرة أسئلتي عنه، ففاتحني بالموضوع وبأنّه قد عرف اهتمامنا ببعضنا؛ لم أجبه بل صمتُّ…
في إحدى الأصبوحات الربيعية نادى عليّ المدير، وقال و.(!) يريدُ محادثتك واجبتهُ بلهفة وعبرتُ له عن خوفي وقلقي بعد أن خرج المدير من الغرفة، أكد لي بأنه في محافظة بعيدة وقد يطول غيابه في العودة، دعوتُ له بالنجاة… وطلبت منه أن يتصل بي مباشرة للاطمئنان عليه… وعدني بذلك، كنتُ اتابع الأخبار وأدعو بالشفاء للجميع وأن يحميه الله بقدر مساعدتهِ للناس للتخلص من هذا الوباء.
سارت الأيام سريعة ومعها بدأت اتصالاته تقل ثم انقطعت ولا أعرف السبب الأكيد، حاولت الاتصال به على خلاف الاتفاق بيننا، هو يتصل وقت فراغهِ، ولكنّه لم يجب… حاولت… وحاولت دون جدوى، تملكني اليأس، قد مرض، قد التقى بحبيبة قديمة، قد فكّر بيّ ولم يجدني مناسبة له.
وعشرات الأفكار سيطرت عليّ دون حلّها!! في يوم دخلتُ إلى المدير وطلبتُ منه إجازة قصيرة وبشرود قال لي: هل ستذهبين لرؤيته؟!
مَنْ… تراجع قليلاً وأمطرتهُ بأسئلة انتظرت جوابها بخوف وقلق وتأكدت بأنّني لا أعرف عن حالته شيئاً، وتوسلتُ به أن يحدّثني عنه بصراحة، فقال: لقد أخُضع لفحوصات (وباء كورونا) خشية عليه وحينما يتأكدون من سلامتهِ سيخرج، لا تقلقي، وسألته عن المستشفى التي يرقد فيها فلم يجب، وخرج من الدائرة مسرعاً…
وبطريقتي عرفتُ تفاصيل أكثر عنه، لقد ساعد امرأة مسنّة مصابة بفيروس كورونا، كان هو ضمن الفريق الطبي الذي ساعدها، وقد شُفيت المسنّة لأنّه مجرد اشتباه، ولكن جميع منْ قام بعلاجها خضع للفحوصات ومن بينهم (!) وقرّرتُ زيارته وأنا أعرف مسبّقاً أنّه ممنوع بل ومرفوض هذا الأمر.. ولكنني ذهبتُ دون علم أي شخص، حتى أمي لم تكن تعرف بعد أن أبلغتها بأنني بواجب رسمي، قدتُ سيارتي واتجهت نحو المشفى الذي يرقد فيه، أفكاري السوداء هجمت عليّ وأنا أقود السيارة ولا أعرف متى أتيتُ إلى المستشفى ومن أبلغ أمي… وماذا حلّ به، وماذا سيفكر بيّ و…و…
لقد أصبت بكسر بساقي ولا استطيع السؤال عنه أو الذهاب اليه ، وهنا فتحت أمي الباب وقالت لنا: لقد سمعتُ الحديث بينكما… ثم أدارت وجهها نحو ابنتها… لماذا لم تصاريحني بكل هذا يا ابنتي… وهل تعتقدين أنني أقف بوجه سعادتك….
أدعو من الله أن ينجيكما ولكن إلى هذا اليوم لا لقاء بينكما!!

 

النسخة الألكترونية من العدد 360

“أون لآين -3-”