الحروب والفقر وراء اتساع الأميّة في البلاد

1٬127

إيفان حكمت – آية منصور – ريا عاصي – ذو الفقار يوسف /

في عام 1979، تسلّم العراق 5 جوائز من منظمة الأمم المتحدة، للتربية والعلم والثقافة، اليونسكو، بعد أن استطاع خفض نسبة الأمية دون 10%. أما اليوم، فآخر إحصائية نشرتها وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، بيّنت أن نسبة الأمية بين الشباب للفئة العمرية بين 15 و 29 سنة خلال عام 2017 بلغت 8.3%، كانت حصة الذكور منها 6.5% فيما شكلت حصة الإناث منها 10.2%، ولفتت الإحصائية الى أن نسبة 32.5% من الشباب من الفئة العمرية 15 إلى 29 سنة ملتحقون بالتعليم حالياً، وشكلت نسبة الالتحاق من الذكور 35.9%، مقابل 28.8% من الإناث. من جانبها حذرت المفوضية العليا لحقوق الإنسان من اتساع الأمية بين الشباب، وسط تحذيرات من اتساع ظاهرة الأمية عموماً.

وأكدت المفوضية، على لسان عضوتها فاتن الحلفي، أن الأمية تركزت في مناطق النزوح والمحافظات المحررة حديثًاً من داعش الإرهابي، حيث تشهد تلك المناطق تسرب الطلاب من المدارس بشكل ملحوظ للعمل وتوفير لقمة العيش.

قانون لمحو الأمية

الباحث في الشأن الاجتماعي محمد سلطان الركابي أكد في حديث “للشبكة”، أن “العراق بعد عام 2003 أوجد الهيئة العليا لمحو الأمية، كما أقر البرلمان قانون محو الأمية في عام 2011، إلا أن الحالتين لم تلبيا الطموح في القضاء على ظاهرة الأمية التي تنتشر كالنار في الهشيم”.

ويضيف الركابي أن “السبب الأول في الأمية يعود الى النقص الواضح في عدد المدارس في العراق، الذي تعدى العشرة آلاف مدرسة”، لافتاً الى أن “ازدياد معدلات الفقر لا بد من أن ترافقها معدلات ازدياد الأمية، إذ يفضل التلميذ التوجه الى سوق العمل بدلاً عن المدرسة، لسد مستلزمات العيش”.

يضيف الركابي أن “الكثير من الأهالي يعانون أيضاً من تغيير المناهج الدائم، واليأس جراء الوضع المعيشي، الذي يطلق التساؤل الدائم: وماذا كسب من حصل على شهادة عليا؟ حيث يفضل السوق أصحاب المهن على أصحاب التخصصات العلمية، وهو ما يشكل دافعاً آخراً ليسرب الأهالي أبناءهم من المدارس”.

مهند أمين، شاب خط شوارب بسيط يعلو شفته العليا، يبدو لي في السادسة عشرة أو أكثر بقليل، التقيناه في أحد التقاطعات المرورية يحمل مرش مياه وماسحة، ويمتهن تنظيف زجاج السيارات يقول، في حديثه “للشبكة”، إنه لا يعرف عمره بشكل دقيق، وإنه يعيل والدته وإخوته الصغار.

يضيف مهند، في وقت بدت على وجهه ابتسامه مربكة: إن “والدي فقد في عام 2014 بالتزامن مع دخول داعش الإرهابي للعراق، وكنا نسكن في منطقة بعيدة عن بغداد، لكننا انتقلنا هاربين الى بغداد من بطش الإرهابيين.”

ويلفت مهند الى أنه “لم يذهب الى المدرسة في حياته رغم أمنيته أن يعيش كطفل طبيعي، يلبس يومياً قميصه الأبيض ويحمل حقيبة مليئة بالكتب، إلا أن وضعهم المعقد منعهم من ذلك، حيث لا يمتلكون الأوراق الرسمية الكاملة للالتحاق بالمدرسة كبطاقة السكن، كما أن والده يتهمه البعض بأنه مع داعش، وآخرون يقولون إنه في أحد السجون، فيما يقول آخرون إنه قد مات في الحرب.”

ويشير مهند الى أن “وضعنا الاجتماعي معقد جداً، حيث يتعاطف الكثير مع حالتنا، فيما ينعتنا البعض بألفاظ حقيرة جداً بمجرد أن يسمع حالتنا، لأن هناك أحكاماً مسبقة على وضعنا”..

كما أكد مهند أن ” مدير المدرسة القريبة من مكان سكننا، تعامل مع والدتي بتعالٍ بعد أن شرحت له الحالة وطلبت منه أن أكون مستمعاً فقط، لكنه رفض دخولي الى المدرسة، واشترط إكمال كافة الأوراق الرسمية، التي تعد أمراً مستحيلاً مع وضعنا الحالي”..

ويقول مهند إن “والدتي تحاول تعليمي الأحرف وتهجئة الكلمات والرياضيات حتى أستطيع التعامل مع الأمور الحياتية البسيطة”.

إغلاق المراكز التركمانية

يوضح مدير عام الدراسات التركمانية لمحو الأمية، جتين عبد الكريم، حول الاتفاق مع الجهاز التنفيذي لفتح مراكز محو الأمية للغة التركمانية، أنهم في بغداد استطاعوا فتح 15/20 مركزاً للغة التركمانية عام 2016 ليتم توسيع فعالياتهم في العام التالي، إذ أن مناهج الدراسة التركمانية مقررة من قبل وزارة التربية، وتمت ترجمتها الى التركمانية وطباعتها وتوزيعها للدارسين لكن العوائق المالية حالت دون إتمام هذا المشروع اذ يؤكد:

-مع عدم وجود الدعم المالي، اعتمدت المديرية على طباعة المناهج على شكل ملازم ملونة على حساب المديرية، لكن الأزمة المالية استمرت، الأمر الذي اضطرنا لإغلاق المراكز هذه السنة، حيث كان الاتفاق على توفير رواتب شهرية للجميع بمن فيهم الدارسون، بمبلغ أربعين ألف دينار شهرياً، لكن كل شيء توقف مؤقتاً.

كما يؤكد أن الفرق بين المراكز العربية والتركمانية، أن الدارسين للغة التركمانية ليس شرطاً أن يكونوا أميين، الأهم تعلم اللغة التركمانية، أي أن يكون أمياً باللغة التركمانية فقط، إذ أن أغلب الملتحقين هم من حاملي الشهادات العليا، وقد كانوا يتأملون إتمام تعليمهم بعد أن قطعوا أشواطاً في تعليم أساسيات اللغة.
أعدادهم محدودة في بغداد وينتظرون إعادة الافتتاح.

الأمية تختفي بعد الحرب

أما رئيس الجهاز التنفيذي، الدكتور حفظي الحلبوسي، فيؤكد أن الجهاز التنفيذي للهيئة العليا لمحو الأمية يمتلك ست مديريات وكل مديرية تحوي العديد من الاقسام، وتكون أغلبها موزعة في أقضية ونواحي بغداد، والآن بدأت الدفعة السابعة وتحوي العديد من الدارسين، مع محاضرين –بالمجان- لعدم كفاية الملاكات التدريسية.

-في عام 2011 حصلنا على درجات وظيفية، وتم تعيينهم عام 2012 وكانت الأعداد محدودة، وعند توسع المدارس أصبحنا نعاني النقص في الكوادر، إذ نملك اليوم أكثر من 6000 منتسب غير المكلفين موزعين على أكثر من خمسين مركزاً في بغداد وحدها.

ويضيف: أن أكثر الوافدين للمراكز هم من السلك الدفاعي، الجنود او الشرطة، إضافة لسائقي التاكسي، بعد أن أصبحت الشهادة ضرورة لترفيع الموظف، الأمر الذي عاد بنفعه للمراكز، إضافة الى العديد من الدورات التي أقيمت حتى في السجون.

يذكر أن مركز محو الأمية يمر بمرحلتين هما الأساس والتكميل، إذ تكون مرحلة الأساس بسبعة أشهر تليها عطلة من 15 يوماً وبعدها سبعة أشهر أخرى، ثم يحصل على شهادة الرابع الابتدائي، ليدرس مناهج تعادل السادس الابتدائي ويمتحن، ثم يحصل على شهادة الابتدائية.

ويضيف أن المناطق التي استولت عليها الحرب تم إغلاق المراكز داخلها بسبب الوضع الأمني.

بعد التحرير تم افتتاح المراكز في الموصل والمحافظات الأخرى، كان الإقبال هائلاً من الوافدين، بسبب ازدياد أعداد الأميين، وذلك لأن أغلب العوائل التي هُجرت لم تتمكن من إرسال أطفالها الى لمدارس في الحرب.

وفي أحدث إحصائية لليونيسكو في الوطن العربي، تبين أن العراق يقع في المرتبة الحادية عشرة لمحو الأمية، بعد عدة دول منها لبنان وسوريا، وقطر، متقدماً على الامارات، الجزائر وتونس، ودول اخرى.

الإنفاق على الحروب

مر على العراق الكثير من الحروب والمآسي التي نخرت عظام بنيته، وجعلت العديد منهم يتكئ على صبّارة الجهل، مسيّرين لامخيّرين، فالحرب لها رجالها ليدافعوا عن وطنهم مهما كان الثمن، إلا أن مخلفات هذه الحروب آلت الى معركة اخرى، ألا وهي المعركة ضد الجهل، فقد أظهر العديد من النتائج التي تسبب بها جهل العديد من أبناء العراق للقراءة والكتابة، من إرهاب وعنف ونزعات قبلية ومذهبية ويأس من الحياة، وأيضاً انعدام التواصل الصحيح مع أقرانهم من المتعلمين.

التهمت الحروب المتعاقبة كل إمكانات العراق المادية، فالذي كان يصرف لتعليم جيل كامل، بات الآن يصرف على شراء الأسلحة والمتطلبات العسكرية، والتي صارت تأخذ الجزء الأكبر من ميزانية البلد، وأصبحت للإنفاق العسكري الأولوية عند الحكومة، وبهذا تعاني ميزانية التعليم من عجز كبير وواضح.

نهضة الأمم

إن السبب الرئيس في النهضة الصناعية والتجارية والاقتصادية للأمم يكمن في تعليم وتنمية أبنائها، ومعرفتهم للإعلام والحداثة، حتى يكون لهم دور في القضايا الاجتماعية التي تخص بلدهم.

ففي الصين يرجع ذلك إلى معرفة غالبية السكان في الريف والمدينة القراءة والكتابة بحيث أنهم يستطيعون أن يتعاملوا مع أدوات الإنتاج و صيانتها بينما العمالة الأمية تفشل في ذلك، وفي مثال آخر كان ثلثا الأطفال في كمبوديا لا يكملون دراستهم الابتدائية، وجرت دراسة المشكلة، وتبين أن من أهم أسبابها عمالة الأطفال لمساعدة ذويهم، فتقرر صرف راتب شهري لهم كي يعودوا إلى مقاعد الدراسة، ما جعل الأمية تنخفض إلى 7% فقط.

الأمية والحرب

البلدان المورثة للقلاقل هي الأكثر أمية بين غيرها، كون عدم الاستقرار يجعل التعليم أمرا ثانوياً مكلفاً لا يمكن اعتباره حاجة ملحة. لكن لو أخذنا بعين الاعتبار مثلاً للتقدم من خلال العلم والاجتهاد والعمل لوجدنا إندونيسيا التي انهارت اقتصادياً عام ١٩٩٧ وقد تحولت الى رابع أفضل اقتصاد في آسيا بعد أن عملت جاهدة على وضع خطة نظام تنموي اقتصادي معرفي ومن خلال محوها للأمية بالرغم من أن إندونيسيا يتحدث شعبها بثلاثين لغة مختلفة، إن تنمية ورفع مستوى الإنسان هما المورد الأكبر لطاقة أي بلد، فإندونيسيا تحولت من مصدّرة للبترول الى مستوردة ومساهمه في تكريره من خلال تعليم ورفع مستوى الفرد الإندونيسي الذي يعد اليوم من خيرة الخبرات والقدرات الاسيوية .

لبنة البناء

الأسرة المتعلمة هي الأسرة المتجنبة للعديد من المخاطر، إن الاستهانة بقدرات العائلة والمرأة بالأخص هي من تجعل لبنة أساس البناء للمجتمع وهي العائلة في مهب الريح.

تخيل أن عائلة تتكون من أم لا تقرأ وهذه الأم رغم حرصها على أبنائها الا انها أعطت دواء بالخطأ لابنها كونها لا تقرأ.. اليس ذلك وارداً؟؟

فنلندا تعد أفضل بلد في نظام التعليم لأنها تتكون من مجتمع متعلم نسبة الأمية فيه صفر إذ أنها تفرض حتى على اللاجئين لها من بلدان فقيرة غير متعلمة قانون التعليم للجميع، لذلك فهي منذ خمسين عاماً تعتبر نسبة الأمية فيها صفراً وهي تتخذ من منهج التعليم للعب والمرح لا للواجبات المنزلية. لذلك يعد مواطنوها من أسعد الشعوب في العالم لأنهم يحبون ما يعملون به ويتعلموه، ومازالت تعتبر، هي واليابان، من أكثر الشعوب المستهلكة لورق الصحف اليومية لأنها تفضل قراءة المطبوع ورقياً بالرغم من أنهما من أكثر البلدان المنتجة للألواح الرقمية.