الحسين (ع).. رمزُ التضحيةِ ومواجهةِ الطغيان
خضير الزيدي ــ ذو الفقار يوسف ــ إيفان حكمت /
تعيش الأمة الإسلامية، هذه الأيام، عبقَ ذكرى ثورة الإمام الحسين التي أضحت مدرسةً في التضحية لمقاتلة الظلم والتجبّر، نهلت منها رموز الثورة والفكر في العالم أجمع. وبينما يسعى العراقيون الى بناء بلد قائم على أسس العدالة والحرية واحترام القانون، فإن ثورة الحسين تمثل معيناً لاينضب يمدّ البناة بقيم الصبر والتضحية والفداء.
واذ يخيم الحزن على قلوب محبّي أهل البيت وهم يستذكرون تلك الواقعة التي انتهكت القيم الأخلاقية والإنسانية، فإن المهم أن ثورة الإمام الحسين على الظلم باقية في كل نفس تسعى الى كرامة الإنسان والحفاظ على مقدساته.
لا تُذكرُ مدينة كربلاءُ المقدسةُ، إلا ويُذكر الإمام الحسين والمراقدُ، والقباب الشامخاتُ. وحيثما تسمع باسمِها، يأخذك الشوقُ والحنينُ، لرؤيةِ ضريحين مقدسين، شيدا، قبل مئات السنين، لأئمةٍ عاهدوا اللهَ على حمل لواء الإيمانِ والرسالةِ المحمدية، وما بدلوا تبديلا.
عرفت الأمم والشعوب حكاية صبرهم، وروح ثورتهم، وكيف ساروا، قاطعين الصحراءَ، واللهيبَ، والدماءَ، ليعلنوا للإنسانية أن ثمار الحرية لن تُؤكلَ إلا بعد أن تقطف من أيدٍ نظيفة، ولكن كلما رفعت تلك اليد لتحمل راية السلام وصلتها سهام الغدر، فأصابت من أراد للإنسان أن يتحرر، ويكسر بإرادته قيود العبودية.
لكن الذي شاء حدث فأعدت كربلاء مكاناً لفيض المسلمين، تنيرها قبّتان شامختان، سجلهما التاريخُ الإنسانيّ وذكرهما المؤرخون لتكونا شاهدتين على الشهداء من أهل بيت النبوة.
فما أن نتوقف عند مشهد ضريح الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) ونحن نمسك بشبّاكه المطهر، حتى تأخذنا التصاميم الجميلة والنقوش فيه وطريقة التراكيب البنائية، بعد أن تهيمن علينا فيوضات الروحانيات من مشهد القبّة وضوئها النوراني وسحر تكوينها.
تاريخ الضريح
هناك العديد من الكتب التي أشارت في محتواها لتاريخ نشأة الضريح والشبّاك وما طرأ عليهما من متغيرات بنائية وتراكيب وتبديل في المواد. يذكر لنا السيد عبد الجواد علي الكلدار في كتاب (تاريخ كربلاء وحائر الحسين) بأن من شيد ضريح الإمام الحسين عليه السلام بالعاج والحلل والديباج ووضع عليه الزينة هو عضد الدولة البويهي في سنة 369 للهجرة النبوية. أما مؤلف كتاب (تاريخ مرقد الحسين عليه السلام) وهو الأستاذ سلمان الطعمة فيؤكد أن تاريخ التشييد كان في التاسع والعشرين من شهر آب لعام 977 ميلادي وأيضا يذكر انه تم تشيده من قبل عضد الدولة البويهي معتمداً الخشب الصاج في تلك المرحلة.
لكن بعد سنوات من هذا التاريخ حدث الأمر المؤسف، فقد تعرض ذلك المشهد النوراني المقدس لحريق بعد أن سقطت شمعتان على مفروشات الضريح المقدس وأضرمت النار.
ولا تخفي مصادر التاريخ أن تلك الواقعة حدثت في العاشر من حزيران لعام 1016، وهنا نقرأ إشارة مهمة للسيد جعفر الخليلي في (موسوعة العتبات المقدسة) بأن من أعاد ترميم ما حدث الوزير الحسن بن الفضل، ومازال بعض الكتاب والمحققين يشكّون في أسباب الحريق، وهكذا تشير الحوادث لبناء الضريح والقبّة والمرقد الشريف. لكن الذي طرأ بشكل أوسع هو ما قام به الشاه إسماعيل سنة 914 للهجرة حينما أمر بتذهيب أطراف الضريح الطاهر ليكون أكثر بهاء ونضرة لمن يراه لأول مرة، ويقال انه قدم اثني عشر قنديلاً مذهباً وبعضاً من الفضة ليكونا في موضع الضريح المقدس. وفيما يخص الشباك النحاسي توضح لنا مصادر التاريخ أن الشاه عباس الصفوي هو من وضعه سنه 1032 للهجرة.
دلائل أخرى
هكذا هو مشهد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) متجدد البناء والحيوية تحيطه النقوش الإسلامية والزخارف الجميلة من كل صوب وحدب، وكل ذلك إنما بُني وصُمم بفن هندسي وطريقة ذكية أصبحت من الفنون الإنسانية التي تتناول بأشكالها الزخرفية واجهات براقة لأبواب متعددة تفضي للضريح أو سقوف تعلو الضريح، ليعلن هذا المكان عن صاحبه إجلالاً وإكراماً لمثواه.
وتفرض مساحة المكان، التي بلغت 7125 متراً مربعاً، مجالاً واسعاً للزائرين القادمين من شتى البلدان، قسم من تلك المساحة الكبيرة خصص للصحن الحسيني الشريف، فقد بلغ طوله 95 متراً وعرضه 75 متراً تتوسطه باب القبلة الكبيرة التي يدخلها الزائرون. ولا يكتفي القائمون على تشييد ذلك الضريح الطاهر في جود هذه الباب فقط، بل يأخذنا الرواق الواسع الى سبعة أبواب تؤدي إلى الصحن وثمانية أبواب أخرى تقودنا للضريح جميعها مطعّم بالنقوش والأحجار النادرة الكريمة مع نقوش نباتية وآيات قرآنية كتبت بخطوط واضحة وجميلة. وما أن يلج الزائر ليتوقف حيث الشباك والضريح حتى تتناهى له القبّة الجميلة التي ارتفعت بحدود 27 متراً تحيطها الشبابيك الصغيرة التي بلغت 12 شباكاً وقربها تتدلى الثريات التي صممت من الكرستال مع سقوف مزينة بمرايا صغيرة تعطي رونقاً وبهاءً لجمال المكان روحياً. أما المئذنتان فهما شاهدتان أخريان من شواهد الفن الإسلامي الجميل حيث يبلغ ارتفاع كل واحدة منهما 44 متراً، مطليتان بالذهب الخالص لتكونا من علامات ارض كربلاء المقدسة التي كانت تسمى سابقاً بالغاضرية والنواويس وارض الطف.
الروضة العباسية المطهرة
ليس ببعيد عن مشهد ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) ثمة قبة طاهرة أخرى وضريح شامخ، فإلى الشمال منه وعلى بعد 240 متراً يدخل الزائر إلى مشهد العباس بن علي (عليهما السلام) الذي عرف ببسالته وشجاعته مدافعاً عن لواء الإيمان ورسالة الحق، تلك القبّة والضريح والمشهد تنبئنا بمكانة صاحبه منذ أن خرج مع أخيه الإمام الحسين حتى لحظة استشهاده ليتولى المؤمنون تشييد ضريحه وتعمير روضته الطاهرة، وكلما تغيرت دواخل ضريح الإمام الحسين تتغير دواخل ضريح العباس، فقد زينت قبته بالكاشاني الملون وبني شباك على صندوق ضريحه المقدس وأهدي للحرم الشريف الكثير من التحف والنوادر مثلما فعلها نادر شاه عام 1742 وأيضاً ما صنعه السلطان محمد شاه بن عباس مرزا في تغيير الشباك عام 1820، فقد بلغت مساحة تلك الروضة العطرة 4370 متراً لها أكثر من باب تحيطها من الداخل غرف أصبحت ذات يوم مراقد لعلماء الشيعة وشخصيات إسلامية. التاريخ الحقيقي
إن هذا الكم من الإنسانية التي تجلّت بشخص أبي الأحرار، لم تكن رواية او أسطورة لأحد الأبطال الذين ينتصرون على الظلام، فالسرد والإنشاء بحق هذه الأيقونة السماوية لم يكن عادلاً قط ولن يكون، وهل هنالك أجمل من عشق غامض حد اليقين؟ اذ لم يمض فينا الشوق قيد انملة لمعرفه فحواه، أي أنه مطلق العاطفة والشعور، هو مايجعل الإنسان انساناً، وهذا أصعب الخلق، ان تبدل القبح والكراهية والعدوان الى ماهو مثالي ونقي، فبرسالته التي قطعت المسافات بإعجوبة نحو النصر بحد العواطف، وبأحلامه الطويلة التي استولت عليه وهو في أوج الموت المحتم، سطر سيد شباب أهل الجنة أروع انتصارات التاريخ الحقيقي. ورغم صور الآلام التي تحملها، كصورة أخيه العباس الذي تحمّل بصمت تلك النفوس الآثمة، التي حرمته من عذوبة الأخوة، وجعله مرهوب الجانب، وظل دون سند يقيه من الغدر، وأخته زينب التي تمزقت اولى اوراقها بإيدٍ مبغضة، واضحت تقاتل لتتجنب الاضطهادات، وولده علي الذي لم تتلقَّ جذوره اللدنة في تربة الدنيا سوى حصى صلبة ملأت بالنهاية، وأوذيت باخضرار شبابه، وصور طفله الرضيع الذي يحدثنا عن فطامه بالدم، بعدما تذوق منه آخر رضع’، لكن رغم كل هذه الشرور لم يجبره الخوف من فقدانهم على الانصياع، حيث جعلته هذه الآلام المستمرة معتاداً على القوة التي بعثها الله في أعماقه الطاهرة، كرسالة واضحة لكل مظلوم، وهي أن تقول (لا) لكل عبودية مهما كانت غايتها، انه تلك النجمة التي تلحظها الحدقات منذ اولى النظرات الى سماء الله، انه القلب الذي رافق الأفكار، فما كان غناه الا سبباً لفقرنا اليه، والأمنية الوحيدة التي لطالما مددنا أيدينا لنجاتنا منها واليها، انه سعادة العارفين، ومنبر المحرومين نحو السعادة، واذا وجدت نفسك ضائعاً في أحلام شنيعة، وإن تألمت في أعماق الوحدة الشائكة، وإن ساورتك الشكوك في الحق وطريقه، فليس لك إلا أن تحرق تيجان الظلام بنور الحسين الساطع، إذ لم يغلبه البؤس ولا اليأس، ولم تدنِ منه لعنات الحزن الهرم، انه التماس الفقراء المهملين، انه صهوة كل مظلوم، انه سيد الشهداء، انه منبع الإيمان الحار، وغنى الحنان المطلق، ووسيلة الرب الجميلة، انه كعبة السعداء.
الإلهام الحسيني
عندما اكتمل قربان الإله، وغصّت الأرض بأحشائها نوراً لم يضاهيه نور، جعل البشر من بعده قانوناً ثورياً ضد الباطل، فقد اكتمل نصاب الحق وغايته، هناك في كتب الشهداء الأبدية، وقد عمرت مخيلتنا بأحلام لا توصف، فما من ثائر إلا وقد عزا هذه الرؤية السامية الى الحسين وطريقه، واكتسبت عيناه روح الثورة الخالصة لله والحق، فكلاهما واحد، فبعدما أعد لقلوبنا طريق النصر ووسائله، اصبح هالة منيرة، وبطلاً شامخاً في نار الإلهام المستعرة، وصار دليلاً لكل من يريد ان يقاوم المغريات، والنور السري لدحر خطايانا، ومستودع أسرارنا لعوداتنا المتأخرة الى الله، ووسيطاً وكفيلاً بيننا وبينه، انه طموح انفسنا البطولي الى الثبات والعزيمة نحو طرد الشر وتابعيه، وجشعهم المكبوت الذي ماكانت غايتهم الا الطمع للظلام، انه جسر التوبة، ومآلنا الى الغفران، ووسيطاً للعفو والطمأنينة القصوى، ورغم انفجار الدنيا بنبوءاتها الرهيبة، إلا أن صوت الحسين، صوت الحق والحرية، لا يزال يعلو لكل من يريد ان يسمعه بقلبه، قبل أذنيه، ورغم قيود العبودية التي صارت كثيرة في أيامنا هذه، إلا أن طريق الحسين قادرعلى تحطيمها.
قيم العدالة
ثورة الحسين (عليه السلام) هي امتداد للرسالة المحمدية السمحاء التي جاءت لتزيل غمّة الظلم والعبودية عن الأمة ولتزرع قيم التسامح والعدل بين الناس. انها منظومة قيمية تتعدى فضاء الصحراء لتفرد جناحيها على سماوات الإنسانية جمعاء.
ومثل كل الرسالات العظيمة، مرت الرسالة المحمدية بمنعطفات كان أولها عبث الأمويين بقيمها الراسخة ومحاولات طمس منظومتها القيمية لمصلحة السلطان الذي هيمن على زرعها وضرعها وعاث في الأرض فسادا. وهكذا جاءت ثورة الإمام الحسين لتجدد الدم في عروق الشعوب المضطهدة وتحفزها على الإطاحة بعرش السطان المستبد العابث، رمزالانحراف والفساد والمجون، وانتزاع حقها المغتصب من بين براثنه وبطانته التي هتكت كل القيم الانسانية التي جاءت بها ثورة الحسين.
يقول توماس كارليل: إن أسمى درس نتعلمه من مأساة كربلاء هو أن الحسين وأنصاره كان لهم إيمان راسخ بالله، وقد أثبتوا بعملهم ذاك أن التفوق العددي لا أهمية له حين المواجهة بين الحقّ والباطل، والذي أثار دهشتي هو انتصار الحسين رغم قلّة الفئة التي كانت معه.
أما إدوارد براون فيقول: وهل ثمة قلب لا يغشاه الحزن والألم حين يسمع حديثاً عن كربلاء؟ وحتّى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلّها.
فيما يضيف الآثاري الإنكليزي وليام لوفتس: لقد قدم الحسين بن علي أبلغ شهادة في تاريخ الإنسانية، وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة.
أما فردريك جيمس فيقول: نداء الحسين وأي بطل شهيد آخر هو أن في هذا العالم مبادئ ثابتة في العدالة والرحمة والمودّة لا تغيير لها، ويؤكد لنا أنه كلّما ظهر شخص للدفاع عن هذه الصفات ودعا الناس إلى التمسّك بها، كتب لهذه القيم والمبادئ الثبات والديمومة.
ويقول لويس بويد: إن من طبيعة الإنسان أنه يحب الجرأة والشجاعة والإقدام وعلو الروح والهمّة والشهامة. وهذا ما يدفع الحرية والعدالة الى عدم الاستسلام أمام قوى الظلم والفساد. وهنا تكمن مروءة وعظمة الحسين. وأنه لمن دواعي سروري أن أكون ممـن يثني من كل أعماقه على هذه التضحية الكبرى، على الرغم من مرور 1300 سنة على وقوعها.
أما المؤرخ الأميركي الشهير واشنطن ايروينغ فيقول: لقد كان بميسور الحسين النجاة بنفسه عبر الاستسلام لإرادة يزيد، إلاّ أنّ رسالة القائد الذي كان سبباً لانبثاق الثورات في الإسلام لم تكن تسمح له بالاعتراف بيزيد خليفة، بل وطّن نفسه لتحمّل كل الضغوط والمآسي لأجل إنقاذ الإسلام من مخالب بني أُميّة. وبقيت روح الحسين خالدة، بينما سقط جسده على رمال كربلاء، أيها البطل، ويا أسوة الشجاعة، ويا أيها الفارس يا حسين.
هذه الشهادات تلخص تأثيرات ثورة لم يخمد تأثيرها في البشرية جمعاء رغم مرور عقود طويلة على اندلاعها، بل انها تصبح يوما بعد يوم مناراً للمناضلين من أجل الحرية وكرامة الإنسان بوجه الظلم والطغيان، كما انها تؤكد أن تأثير ثورة الحسين تخطت الأديان والقوميات، إذ أن هذه الشهادات هي لثوار ومفكرين ومؤرخين من مختلف الأديان والقوميات والقارات على الارض.