الحياةُ والموت عندها سواء

840

رجاء خضير /

العاصفةُ العاتية تستطيع قلع الأشجار العملاقة، لكنها لا تستطيع قلع الأعشاب الصغيرة الملتصقة بالأرض. ترى هل العواصف البشرية كذلك أيضاً أم هي على العكس من ذلك؟
او ان الصغار تموتُ فوراً حينما تدوسها ألاقدام كي لا تعرف على منْ قضت.. وهذا اسوأ ما يجري في زمننا الذي يبدو ان لا نهاية له!!

لا تتعلقُ الحكاية بمن قصَّتها لنا، إنما كانت هي شاهدة عيان نقلتها إلينا بحزن وألم، لأنها لم تستطع التدخل حينها، وهذا سبب حزنها الدفين. قالت: التقيتها في إحدى ساحات بغداد، صبية جميلة الوجه ممتلئة الجسد، تتدلى خصلات شعرها الذهبية على جبينها فتضيف إليها جمالاً ودلالاً.
اقتربت مني فقالت لي ببراءة الطفولة: “خالة اشتري الحلوى مني، فأنا منذ الصباح لم ابع اية قطعة”.
اشتريتُ منها، وسألتها لماذا تتجولين في الشوارع بائعة بهذا العمرِ الصغير، لم لا تذهبين إلى المدرسة كصديقاتكِ؟ أجابتني: لا استطيع لأن زوجة أبي لا توافق على ذهابي إلى المدرسة، فهي تعمل الحلوى في البيت وأنا أبيعها. سألتها: أين أمك؟… وهنا روت لي قصتها:
أمي طلقها والدي وعادت إلى أهلها في محافظة (!)، وبقيتُ أنا وأخي مع والدي الذي سرعان ما تزوج المرأة التي كانت سبباً في الطلاق، ومنذئذ بدأت زوجة أبي تعذبني أنا وشقيقي الصغير الذي ضاق به والدي ذرعاً فأدخله ملجأ الأيتام بعد أن قدم لهم أوراقاً مزورة بحجة أن أمَّنا قد توفيت. وهكذا افترقتُ عن شقيقي الذي كان يحبني كثيراً، بل وينام في حضني ليلاً لأنه يخاف من كل شيء. أما أنا فكنتُ ألبي كل ما تطلبه مني زوجة أبي، أعمال البيت، رعاية ابنتها الصغيرة، إضافة إلى بيعي لهذه الحلوى.
تركتها وأنا افكر بما قالته، تراها كانت صادقة في روايتها ام صاحبة مخيلة خصبة؟ بعد أيام مررتُ بها، وفي الموقع نفسه، عرفتني وركضت نحوي… اشتريت منها ثم لاحظتُ آثار حروق على يديها وعلى خدّها الأيسر فسألتها عمّا بها فأجابت: في أحد الأيام لم أبع شيئاً، وحينما عدتُ إلى البيت ضربتني زوجة ابي كثيراً ومن شدة ألمي قلتُ لها: ما ذنبي اذا لم يشتر مني أحد؟ اعتبرت كلامي هذا تجاوزاً عليها فما كان منها إلا ان أحرقت يدي ووجهي وأمام والدي الذي انحاز اليها دون أن يسمعني.
اختنقت بدموعها وسكتت فأيقنتُ أنها صادقة، طلبتُ منها أن تخبرني أين يقع بيتهم، ارتجفت وخافت وتوسلت أن أترك الموضوع لأن والدها وزوجته إذا ما عرفا بأنها أخبرتني، فستسوء معاملتهما لها اكثر، أو يذهبون بها إلى دار الأيتام. حدثتها كثيراً عن الحفاظ على نفسها وكيف يجب أن تتعامل مع الآخرين، بل طلبت منها أن تتصل بوالدتها الحقيقية لكي تأتي وتأخذها للعيش معها، لكني علمت أن والدتها قد تزوجت هي أيضاً، وهي لا تعرف شيئاً عنها.
اصبحت هذه الصبية جزءاً من اهتماماتي، كنتُ أمّرُ عليها بشكل دائم واشتري منها كي أجنبها أذى زوجة الأب… كنتُ أحدثها عما يجري من مشكلات وصعوبات في المجتمع وأحذرها من الشباب الطائش و….و… كانت تستجيب لي، وبدأت تنتظر مجيئي وإذا غبتُ عنها فترة تعاتبني بحنان.
هكذا سارت الأيام وفي أثنائها تعمقت العلاقة بيننا. كانت تحدثني عن كل شيء يخصها ومعاملة البيت لها، وكنت انصحها كانها ابنتي، ساعدتها كثيراً في أمورٍ مادية ومعنوية. وفي أحد الأيام لم أجدها ففسّرتُ ذلك بأنها قد تكون أكملت بيع الحلوى وعادت إلى البيت. ذهبتُ في اليوم التالي ولم أجدها أيضاً… بدأت أشعرُ بالقلق والخوف عليها، منْ أسأل؟ منْ يعرفها؟ ولا أعرف عنوان بيتهم ؟؟
خطرت لي فكرة أن أسال عنها بعض أقرانها من الباعة في الشارع نفسه، سألتهم عنها، هم أيضاً لا يعرفون شيئاً عنها. عدتُ في يوم آخر فجاءني أحدهم مسرعاً وقال لي: لقد عرفتُ أين يقع بيت الصبيّة التي تسألين عنها، قلتُ له: هل لك أن تصعد معي في السيارة لتوصلني إليها وسوف اعيدك أنا إلى هنا أيضاً؟ وافق وذهبنا… طريق صعب ومتعرّج، لم أشعر بالخوف، ولكن اتصلتُ بزوجي وأخبرته بكل التفاصيل فشجعني على معرفة مصيرها.شعرتُ براحة، وصلنا إلى هناك، لكن الصبي قال: أنا سأنتظركِ هنا.
دخلتُ لأرى أقسى درجات الفقر والبؤس، قابلتني امرأة بدينة سمراء قاسية الملامح عرفتُ أنها زوجة الأب الظالمة، سألتني منْ أنا، وماذا أعمل في بيتها، أعلمتها بسبب مجيئي، ولأنني قلقة بشأن الصبية… ضحكتْ باستهزاء وقالت بسخرية: وما علاقتكِ بها؟ وهنا خرج رجل متوسط العمر فقاطعها ليقول لي: اللهُ خلصنا منها!
صرختُ به: أنت والدها وتقول عنها هذا؟
حرام عليكم.. أين هي.. وماذا فعلتم بها!
ردّ بصرخة عالية: ومنْ أنتِ كي تتدخلي في أمور عائلتنا؟ أخرجي من بيتنا فوراً. غيرّتُ نبرة صوتي معهُ وسألته عنها بعدما عرفوا بأنني المرأة التي كنت أساعدها دائماً… ويبدو أنها قد قصّت عليهم مدى عطفي عليها ومساعدتي لها، قالت زوجة الأب: لقد وجدتُ لها عملاً في بيت ابن عمي الذي يسكن(…) وهذا أفضل من الشارع!!
وافقتهم على رأيهم هذا وأردفتُ: بالتأكيد ستحبُ أولاده وستعيش معهم بسعادة!!
قاطعني والدها وقال إنه غير متزوج فهو طالب كلية ويسكن هو وأصدقاؤه في شقة قريبة من مكان دراستهِ، وهي ستقوم بخدمتهم لقاء راتب جيد يفيدنا!!
وعجبتُ لوالد يبعثُ ابنته إلى محرقة ويتسلى بهذا المنظر لأنه يحصل على الراتب نهاية كل شهر ولا يعرف ماذا يجري لابنتهِ وسط شباب غرباء وكيف تعيشُ…و..و؟
قلتُ له إنها صغيرة ولا تعرف كيف تتعامل مع شباب، فردّت زوجة الأب بعصبية: منذ سنوات وهي تتجول في الشوارع لتبيع الحلوى ولم يحدث لها شيء، الآن أفضل لها أن تتستر في بيت وتقوم بخدمة منْ فيه!!
قلتُ: إن الشارع أكثرُ أمناً من بيتٍ مملوء بالشياطين ولا تعرفون ما يحدث لها فيه.
أجابني الوالد: لن يحدث لها شيء، لا تتدخلي أنتِ واخرجي من بيتنا.
ولا أعرف كيف تذكرتُ ابنه الصغير الذي رماه في دار الأيتام.. وهنا سألته: وكيف حال ابنك في دار الأيتام؟؟ اشتاط غضباً وتقدم نحوي ودفعني بقوة خارج البيت.
عدتُ إلى بيتي بعد أن أوصلت الصبي الذي أخذني إلى بيت أهل الصبية، شرحتُ لزوجي كل ما حدث معي في بيتهم وكيف باعها أبوها إلى مجموعة شباب بحجة أن واحداً منهم هو ابن عم زوجته..
وهنا طلب مني زوجي أن أبتعد عن هذه العائلة وأن أترك كل شيء يتعلق بالصبيّة، لأن الأهل الذين يبيعون ابنتهم، بل شرفهم، يسهل عليهم تلفيق أية تهمة.
فكرت ملياً بحديث زوجي واعترفت بصحة ما قاله، تركت موضوع الصبيّة، لكني لم أستطيع ترك التفكير بها. وفي يوم شتائي ماطر قادتني سيارتي إلى بيتهم لأفاجأ بــ ( لافتة سوداء تنعى الفتاة)… بكيت وحزنت وسألت صاحب محلٍ قريب لبيتهم عن سبب وفاة هذه البنت… لكن جميع منْ في المنطقة لم يكونوا يعرفون سبب وفاتها!!
عدتُ حزينة ومئات الأفكار السوداء في مخيلتي، لكني لم استطع فعل شيء من أجلها!!
آهٍ.. وألف آه… لصبية داستها أقدام بشر أكثر وحشية من الذئاب!!