الرحمة قبل كل شيء يا والدي

1٬102

رجاء خضير /

وجع القلب من يشفيه، بدأ يتسلل الى الروح، بل حتى أبعدُ نقطة في الجسد، وبعد ماذا سيكون المصير؟ ونبدأ بالبحث عن ملاذٍ آمنٍ تسكن فيه الروح العاتية والقلب الموجوع عساهما يجدان الراحة والأمان ليتخطيا زمناً ضاع فيه الحلم والرجاء ويبحرا مع أمواجٍ ليس لها قرار، وهذا هو التيه الحقيقي…
ملاحظة: هذه القصة لها مثيلة في كل تفاصيلها مع اختلاف النهاية… علماً أنهما حدثتا في جانب الرصافة!!!

هو شاب وسيم جميل، الهدوء أهم ما يميزهُ، قال بعد ترددٍ:
نشأتُ بين أفراد عائلتي المتكونة من والديّ وثلاثة أشقاء وشقيقة واحدة، كانت والدتي تشرف على رعايتنا ودراستنا، لأن عمل والدي يتطلب سفره الى المحافظات باستمرار، وحينما يعود تأتي معه المشكلات مع والدتي التي غالباً ما تلوذُ بالبكاء. كنا صغاراً لا نعرف سرَّ كل هذه المشكلات، نرافقها الى بيت جدي (أهلها) نقضي أياماً ثم نعود…. في إحدى زيارات والدي لنا أخبرنا بأنه قد نُقل نهائياً الى بغداد، فرحنا كثيراً نحن الأطفال، أما أمي فقد اكتفت بتهنئته فقط! كانت تعود من عملها مسرعة لتجهز لنا الغداء، وكنتُ أنا وشقيقي الأكبر نساعدها في ذلك كي يجهز كل شيء قبل عودة أبي….
وفي يومٍ دعانا أبي الى العشاء ففرحنا بهذه الدعوة كثيراً وذهبنا في الموعد المحدد، سبقنا والدي الى هناك بحجة تهيئة الأجواء ولكي يحجز لنا المكان المريح…
لحقنا به بعد فترة ودخلنا لنراه من بعيد يجلس مع أمرأة جميلة كل ما فيها يدلُ على الترف والرقي، ارتبك حينما شاهدنا نتقدم نحوه، أسرع الينا وأخذنا الى طاولة بعيدة عن تلك المرأة، لم تتفوه أمي بكلمة لأن ملامحها الحزينة ونظراتها المريبة الى والدي فسرت كل شيء.
عدنا الى البيت بعد العشاء ونحن في حالة حزن، وفي الليل اندلعت معركة كبيرة بين والديّ بسبب تلك المرأة، إذ لم تقتنع أمي بتفسيره للموقف.
هكذا سارت حياتنا بين الشدّ والجذب، بين الفرح والحزن، وهذه الأمور جعلتنا نفقدُ الأمان ونحن في بيتنا…هذا الوضع انعكس علينا نحن الأربعة، لم يفكرا بنا ولا بحالتنا النفسية كيف ستكون مستقبلاً من جراء هذه المشاحنات!!
كان دوامي في الجامعة متنفساً لي وبديلاً عن أجواء البيت المشحونة، كنت من الطلبة المتميزين في الدراسة، أساعد زملائي في بعض المواد التي تصعب عليهم، وهناك تعرفت عليها: إنسانة هادئة متوسطة الجمال ولكن أخلاقها وحُسن سيرتها في الكلية هي التي جذبتني إليها، وتدريجياً تعمقت علاقتنا ولمستُ منها ذلك من بقائها فترات طويلة معي بعد انتهاء المحاضرات.
قصتًّ لي تفاصيل حياتهم في البيت، والراحة التي يحرص والداها على توفيرها، فهن ثلاث بنات فقط، وبدوري أطلعتها على تفاصيل حياتنا باستثناء مشاحنات والديّ، فقد تلبسني الحرج عن البوح بها.
مضت السنون الأربع وأشرفنا على أبواب التخرج وصارحتها بأنني سأتقدم لخطبتها، فرحتْ وقالت بعفوية: كنت أنتظر هذه اللحظة منذ فترة، وتحدثنا بأمور الخطوبة و…..و…..
في حفلة التخرج قدمتها لوالديّ على أنها زميلة مقربة عندي… رحبوا بها ببرود، وأدركتُ أنها لم تعجبهما أو ليست تلك التي يفكرون بها لتكون زوجتي، لاحظتْ هي ذلك وأسمعتني كلاماً غريباً عن والديّ فانقلبت أجواء فرح الحفلة الى حزن واضح علينا، عدُنا الى البيت وناقشت أمي عن تصرفاتها هي ووالدي مع حبيبتي فأسكتتني بالقول: إنها لا تليق بك! قلت لها: لماذا يا أمي؟ وماذا عرفتِ عنها بهذه السرعة: فلم تجب!!
ومع الأيام وبجهود بعض الأصدقاء والأقارب اقتنعا بالتقدم اليها، فرحتُ وأخبرتها بموعد زيارتنا لهم: استقبلت الخبر ببرود وهذا كان إحساسي.
ذهبنا في الموعد المحدد وتناقش والدي كثيراً مع والدها وعمها اللذين طرحا أموراً عدة واتفقوا على أن يكون عقد القران على “مذهبهم”.. حاولتُ تغيير الموضوع بعد أن رأيتُ والدي قد امتعض من طريقة طلبهم، وخرجنا ليفتح والدي أبواب جهنم عليّ: وافقتهُ أمي بكل ما قالهُ، وبعد أيام حدثت فيها مناقشات عدة مع والديّ استطعتُ اقناعهما باتمام الخطوبة وأن الاختلافات بين عقائدهم وبيننا لا تقفُ حاجزاً في طريق سعادتنا وحبنا… كسبتُ أمي الى جانبي بعد أن أفهمتها مدى تعلقي بها… وهكذا تم لهم ما أرادوا وعلى مذهبهم، وافقني والدي صورياً ولكنه رفض الارتباط بمثل هذه العائلة التي تفرقُ بين المذاهب والطوائف، أجبته: وأنت يا أبي انت مثلهم ايضاً تفرق.. فانهال عليّ بالشتائم ودفعتني أمي وخرجت من البيت مؤقتاً.
هدأت الأمور نسبياً حينما أخذ والدها يحدث والدي عن التفاصيل الخاصة بالزواج وأمور أخرى، ومنها لاحظت تغيّرها بعض الشيء، برودتها وهي تقابلني، اتصالاتها قلّت كثيراً، رفضها لكثير من الحاجيات التي اشتريتها لها و….
ومع كل ذلك أصررتُ على عقد القران، وتم ذلك، عندها أعلن والدي الانسحاب كلياً من المسألة، وأنَّ عليّ أن أكمل المسيرة التي اخترتها لنفسي، واستغربت من موقف والدتي وشرطها بالموافقة على زواجي على أن نسكن في بيت منفصل عنهم متذرعة بأن ذلك سيريح الجميع، أخبرت خطيبتي بذلك فرحت وقالت: “هذا ما أريده أنا فأنا لا أرتاح لأهلك”.
عاتبتها على قولها هذا، لم تعتذر بل أكدت قولها: بأنها تشعر أن أهلي مجبرون على هذه الزيجة، لم ادعها تكمل ومن يومها بدأت المشاحنات بيني وبينها، يوم سعداء وأشهر تعساء، تعبتُ من الحديث معها بلا جدوى، فسلكتُ طريقاً آخر، إذ ذهبتُ الى والدها وحدثته بكل التفاصيل بيننا وأكدتُ له بأننا سنعيش حياتنا الباقية معاً فلماذا نقضيها بالمشاحنات غير المجدية، في البداية ساعدني كثيراً على تجاوز الخلافات ولكنه مع الأيام أصبح ينحاز إلى ابنته.
أنا أحبها ولا استطيع تركها، هذا ما أخبرت به أمي التي نصحتني بتركها، لأنها إنسانة غير مستقرة ولها آراء وقرارات تغيّرها مع الأيام، فكيف تصبح زوجة وأماً لأطفالك مستقبلاً!!
ضحكتُ وقلتُ: يا أمي وهل كنا نشعر بالأمان والاستقرار وسط مشاحناتكما انتِ وأبي؟
وهكذا تحولت حياتي الى مشكلات تصعب يوماً بعد آخر، ووصلنا الى نهاية الطريق حينما قابلتُ والدها في محلهِ، وحدثته بكل شيء وأخبرته باتفاقنا أنا وهي بأن نترك بعضنا، حينما سمع ذلك اصفرَّ لونه وبدأ يرتجف وهو يقول لي: إذا افترقتما فهل تريد استرداد ما قدمته لها من هدايا وذهب و…! ولم يُكمل كلامه، فقد سقط أرضاً، حملتهُ أنا وعامله في المحل الى المستشفى واتصلنا بأهلهِ الذين جاءوا مسرعين وهي معهم، نظرت اليّ بألم وحزنٍ وحقدٍ بعد أن أخبرها العامل بالحديث الذي دار بيننا، وهنا خرج الطبيب المعالج ليخبرنا بأن السكر مرتفع عنده ولا نعرف بعد أي عضو أصاب من جسمه فهو في غيبوبة!!
صرخ أهله وتقدمت هي نحوي لتنهال عليّ بالضرب وتتهمني بأنني السبب فيما حدث لوالدها.
تخلصتُ منها بمساعدة أمها التي قالت لها: ليس هو وحده المسوؤل بل أنتِ أيضاً فقد جعلتِنا نعيش في كوابيس بسبب زواجك هذا.. انسانة مريضة أنتِ، وتذكرت قول أمي حينما رأتها أول مرة… قالت لي: “تبدو كأنها مريضة” وفي وقتها أسكتها لئلا يسمعوها…..
أفقتُ من ذكرياتي هذه على صراخ أمها وشقيقاتها حينما أخبرهم الطبيب بأن والدهم قد انتقل الى رحمه الله… خرجت أسحب خطواتي بتثاقل وحزن واضحين، وعدتُ الى البيت لأخبرهم بما حدث:
القصة انتهت ، ولكن جذورها ما زالت تمتد في دواخلي: فكم من الوقت سندفع ثمنها نحن جميعاً… نحن جميعاً!!