الزبَّاء..أول ملكة من الفرات الأعلى

785

باسم عبد الحميد حمودي /

هذه حكاية ملكة من تنوخ، ملكت بعد أبيها (عمرو التنوخي) ممتدة أراضيها على الفرات الأعلى، عابرة أرض (عانات) إلى سهول سوريا.
كان وصولها إلى الحكم عام 320 للميلاد بعد قيام الملك الوضّاح جذيمة الابرش (من عمالقة الشام) بقتل والدها (عمرو بن الضرب بن حسان) الذي كان ثالث ملوك الأسرة التنوخية على العراق.
كان مقتل والدها خلال معركة على نهر الفرات بين جيشه وجيش جذيمة الأبرش، ولم يكن لأبيها ولد يخلفه فجلست مجلسه وحكمت بديلا عنه كملكة على الفرات.
الثأر خدعة
قررت الملكة الزَّبَّاء (واسمها الحقيقي نائلة) الثأر لوالدها من الأبرش بالمواجهة العسكرية، واستعدت لذلك بالتدريب والتهيئة، وكان لشقيقتها الصغرى (زينب) حكمة وحصافة، فقد أرسلت من يستطلعون جيش جذيمة وقواته فوجدت أن جيش الزَّبَّاء لا يستطيع مواجهة قوات الأبرش، لذلك طلبت منها أن تنفذ خطة الثأر بالخديعة، وأن تتظاهر بالاستكانة والدعوة إلى التوافق… بل والزواج بجذيمة!
الأبرش.. موافقة وغدر!
كان جذيمة الابرش من التنوخيين ملكا لمدينة الحيرة وما جاورها من أراضي العراق وصولاً إلى سوريا وكان ممن جاء بعده من المناذرة، المنذر بن ماء السماء والمنذر الثاني وامرؤ القيس وهو غير الشاعر المعروف من شعراء المعلقات وعمرو بن كلثوم الذي قتله الشاعرعمرو بن هند بعد أن تعرض له بالشتم في مجلس شراب.
وكان لجذيمة الأبرش شقيقة تسكن معه اسمها (رقاش) أحبت تابعا له هو عدي بن نصر حاكم الحضر، كان يجالسه بين حين وآخر في مجلس شرابه الذي لا يدخله أحد سوى عدي هذا ورقاش.
طلبت رقاش من عدي أن يخطبها من أخيها المتكبر ساعة سكره فاذا أجاب تزوجا في ليلتهما، وهذا ما حصل فقد وافق الابرش دون وعي وتزوج الحبيبان بعد علاقة سابقة.
صحا الأبرش في اليوم التالي ليجد تابعه عدي نسيبا له، فعز عليه ذلك مدركا أنَّه خدع، فدبّر لعدي مكيدة قتل خلالها وتخلّص جذيمة منه، لكن أخته رقاش ولدت من عدي ولدا اسمته (عمرو) وحمته من خاله محذرة، هنا أقسم الأبرش الا يمسه بسوء، وأن يجعله خليفة له.. وهكذا كان.
رسالة من الأبرش
كان الابرش يمني النفس بالاستيلاء على الاراضي بين الفرات ودجلة والاراضي التي تحكمها الزَّبَّاء، فطرح على مستشاريه فكرة أن يدعو الزَّبَّاء للزواج وبذلك يتحقّق سعيه.
وافق المستشارون على رأي ملكهم عدا مستشاره (قصير) الذي حذّره من زواج كهذا سيكون الخاسر فيه.
لم يهتم جذيمة برأي قصير بعد أن وافقه الآخرون، وأرسل رسالة إلى الزَّبَّاء يدعوها للزواج به وجمع المملكتين.
وافقت الزَّبَّاء على طلب الابرش وأعلمته بالترحاب والقبول، فاستمر قصير في المعارضة وقال: أرى القدر يسابق الحذر ولا يطاع لقصير أمر.
أرسلت الزَّبَّاء إلى جذيمة وفدا يحمل الهدايا ومعه رسالة تقول:
(لم أجد ملك النساء الا قبحا وضعفا في السلطان) ودعته إلى معاينة بلدها والبناء بها، وجاء في رسالتها أن العادة أن يصل الطالب إلى المطلوب وذاك معناه أن يقدم اليها ليرى بلادها ويقيم معها لفترة ثم يذهبان معا إلى الحيرة، عاصمة ملكه.
السفر… الخديعة
استخلف جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي على عاصمته وملكه وسار بقوة مناسبة إلى أراضي إمارة الزَّبَّاء التي أعدت للامر عدته ونشرت مظاهر الزينة طول الطريق مما أفرح جذيمة الذي دخل قصرها الكبير المبني على الطراز الحيري والزَّبَّاء تنظر إليه وهو يتحرك على جواده وقوات جيشه تنسحب من خطوة إلى خطوة، لأن الطريق يضيق بهم ويقادون إلى أمكنة أخرى حتى وجد جذيمة ذاته وحيدا على حصانه وحرس الزَّبَّاء يقتادونه إلى داخل القصر حتى أوصلوه مكتفا إلى العرش الذي أراده وأجلسوه إلى جانب الزَّبَّاء التي أمرت بوضع طست حوله لفصد دمه حتى ينتهي أمره.
عرف جذيمة الأبرش قدره وهو يرى دمه يسيل أمامه، فطلب شرابا يعينه على الصبر والألم فأتوه به، فظل يشرب ودمه يسيل في الطست حتى مات… وبذلك انتقمت الزَّبَّاء من قاتل أبيها.
انتقام قصير
قرر مستشار الابرش الانتقام من مكيدة الزَّبَّاء بقتل سيده، فطلب من سيد الحيرة الجديد عمرو بن عدي الا يتحرك نحو الزَّبَّاء سريعا للانتقام وأن يتحرك هو قبله، وافق الملك الجديد وقام قصير بجدع أنفه وسار إلى الزَّبَّاء باكيا متظاهرا بالحزن، هنا قالت العرب: (لأمر ما جدع قصير أنفه).
شكا قصير للزباء ما ادعاه من اعتداء ابن أخت جذيمة له وطلب أن يعمل في خدمتها وأن يرعى تجارتها مثلما كان يفعل مع الأبرش.
وافقت الزَّبَّاء على ذلك وقد وجدت نصيرا يكره اللخميين ويقوم برعاية تجارتها التي ازدهرت على يديه حتى اطمأنت لقصير تماما.
وجبة الأبل الأخيرة
ذاك ما حصل، فقد جمع قصير رجال الملك عمرو بن عدي الأشداء ووضعهم في جفان فوق الأباعر، كل بعير يحمل جفنين ميمنة وميسرة، وكل جفن فيه رجل مسلح بسيفه والقافلة تسير إلى الحيرة حيث قصر الزَّبَّاء الذي قتل فيه جذيمة.
كان قصير قد أرسل إلى الزَّبَّاء رسولا يعلمها بقرب مجيء مئات الجمال والنوق مع البضاعة المشتراة إلى قصرها.. وفتحت الزَّبَّاء أبواب قصرها فرحة بالخير القادم الذي يقوده قصير.
هنا يقول الشاعر:
ما للجمال مشيها وئيدا أجندلا يحملن أم حديدا
أم صرفانا باردا شديدا أم الرجال جثما قعودا؟
وقد صدق الشاعر فالفرسان كانوا جاثمين وقاعدين في الأجفان التي حملتها الأبل.
ما إن وصل القطيع الكبير إلى داخل ساحات القصر والزَّبَّاء واقفة فرحة، حتى خرج الرجال من الاجفان شاهري السيوف وقتلوا حرس الزَّبَّاء التي فرت داخل قصرها الحيري.
كان قصير يعرف كل مداخل القصر ومخارجه، فوجدت الزَّبَّاء ذاتها محاصرة فأمسك بها جنود الغزو وقتلت شر قتلة ولكن دفنت باحترام!
هكذا
هكذا ملك عمرو بن عدي اللخمي التنوخي أعالي الفرات، مثلما ملك الحيرة عن خاله الأبرش وانطوت بذلك صفحة دامية من الحروب وخداع الحكام والملوك.