السيدة دالاوي تقول الساعات المعرَّفة بالبراعة والألم
مقداد عبد الرضا /
التمثيل هو سحر وإطلالة، والبقية كلام كان قد كتبه المؤلف. قليلة جداً هي الأفلام العربية التي تتسم بالصمت، وحتى وإن وجدت فإن ايقاعها يختل فيما بعد , ذلك أن الفن العربي هو فن صوتي بحت, لو تابعنا فن التمثيل الصامت في العالم والوطن العربي لوجدنا أن العالم يزخر بالكثير من الممثلين الذين برعوا ويبرعون في هذا المجال، وقد يكون معدوماً في وطننا العربي, إننا بحاجة لمعرفة ما تنم عنه الصورة اكثر من الصوت, العالم صورة , يقول المخرج ستانلي كيوبرك: حينما دخل الصوت الى السينما ضعفت.
الجزع اليومي والمألوف احياناً يدفع بي للعودة الى الوراء والبحث عما هو جميل ومؤثر متذكرا مقولة الكاتب نيكوس كازنتزاكي في رواية (المسيح يصلب من جديد): “هذا العالم شيء متقن للغاية, لاتنقصه صغيرة او كبيرة , اذا جاع المرء وجد الخبز واللحم, واذا عطش وجد الشراب المقدس النبيذ, اما اذا ماتملكنا الغضب فلقد خلق الله لنا السياط وادبار اليونانيين.” بمونتاج متواز نشارك مع جوّه العام نوعا من التوتر والانتظار, فرجينيا وولف (نيكول كيدمن), بين ان تتهيأ للخروج من منزلها واصابعها التي تضغط على الورق لتكتب لزوجها رسالة وبين اكتشاف زوجها لتلك الرسالة.
-عزيزي, اشعر بكل تاكيد أنني سأجن ويكفي ماخضناه من توترات, ليس بمقدوري ان اعبرها هذه المرة, انا افقد اتزاني العقلي, اسمع اصواتا ترعبني, لذا ساقوم بفعل الصواب.
تدخل الى النهر بعد ان وضعت حجراً صلداً في جيب معطفها وتغوص بطريقة دراماتيكية محزنة.
بعد ان انتهى المخرج البارع ستيفن داليداري من انجاز فيلمه الأخّاذ (بيلي اليوت) اتجه ليدخل نفقاً قاتماً قد يكون هناك بصيص امل في نهايته, من يدري؟ رواية كلاسيكية عام (1925) للكاتب مايكل كاننكهام حولها كاتب السيناريو ديفيد هير الى فيلم (لم أكن أعلم البتة انها صعبة التحويل) ثم جاء داليداري وأخرجها محققاً واحداً من تلك الأفلام التي لاتغادر مخيلتك طويلاً, (أصبت بالذعر حينما علمت أن وولف نظرت الى الأسفل, انحنت, التقطت حجراً ووضعته في جيبها, ثم سارت خطوات, توقفت, انحنت مرة اخرى، التقطت حجراً آخر ووضعته في جيبها الآخر, ثم بهدوء سارت باتجاه النهر, انسلت الى الماء وتوارت). هكذا بدأت نيكول كيدمن حديثها حول الشخصية التي أدتها ببراعة فائقة (جائزة الأوسكار- افضل أداء), ثلاث نساء من ازمان مختلفة, عام 1923 لورا براون (جوليان مو) ربة منزل معذبة كثيرة البكاء ولاتعرف السبب الحقيقي لبكائها, تعيش في كاليفورنيا, تقرا كتاب وولف, السيدة دالاوي, عام 1951 محررة كتب عصرية من مدينة نيويورك تدعى كلاريسافون, البارعة (ميرل ستريب), انها تقلب في رواية السيدة دالاوي, هاهي امامنا تقوم بالتحضير لحفل على شرف عشيق كانت معه يوما ما, هذا العشيق يعاني الان من مرض الإيدز, ها نحن اذا أمام ثلاث نساء يبدو ان القدر وقع عليهن بطريق الخطأ في الحياة, وولف.. الروح المهيمنة تتسلل بهدوء الى الماء في العام 1941 وتنهي حياتها, هذا مايشكل اطار الفيلم, يحاول زوج وولف ان يحتجزها لشعوره بالخلل الذي اصاب روح زوجته وعقلها, هي الآن تبدأ بكتابة رواية السيدة دالاوي, تقيم في ريشموند احدى ضواحي لندن, الرواية تدور احداثها كما نعرف في 24 ساعة, رواية تشي بالموت، تغرق كلارا براون نفسها في العيش مع رجل احمق متبلد الإحساس, شاعرة بشكل قاس بانها لانفع منها في حياة تكتنفها الرتابة والكراهية لذلك الزوج الغبي, تهجره الى قراءة رواية وولف لتكون عزاءها الوحيد, اذ لولا هذه الرواية لربما كانت قد تسربلت الماء مثلما فعلت وولف, المرأة الثالثة كلاريسيا تتمتع بحياة عائلية أكثر استقراراً, فهي تعيش مع ابنتها منذ عشر سنوات لكنها أحياناً تحاول بشتى الوسائل أن تدفع عنها ذلك الشعور المريب والخفي الذي يراودها بأن حياتها هي الأخرى تافهة, لذا نجدها متعلقة بالماضي وعلاقتها مع ريتشارد. البارع (ايد هارس) الشاعر النيويوركي الذي تركها ومضى بعيدا قبل سنوات ودون معرفة السبب, نسوة يعشن حياة مشتتة وقلقة قد تؤدي ايضا الى نهاية وولف نفسها, فيلم قاس وحزين, المخرج ستيفن داليداري (بيلي اليوت , القارئ) أهم أفلامه على الإطلاق يقف الآن بجدارة مع اهم مخرجي هوليوود، استطاع أن يمسك بعصب نساء ثلاث, مجنونات تمثيل.
قليلات هن الممثلات اللواتي يستطعن التعبير عن شعورهن الداخلي بصمت ودون حوار, بلاغة ستريب نفسها, الأداء الأخّاذ الدافئ يسمح لنا ان نقرأ مايدور من احتدام في دواخلها، فمنذ فيلمها الاول (جوليا) وحتى الان وهي رائعة في التعبير، إن صمتها الداخلي فذ. جوليان مور، اوسكار افضل اداء عن فيلم (لاتزال اليس 2014)، قدرة هائلة على التحكم بعواطفها لكنها احيانا تدخل في ادوار لاتناسبها ولاتناسب مقدرتها, في (الساعات) تجسد باقتدار عال شعور تلك المرأة المحطمة التي تفكر احيانا بانهاء حياتها, نيكول كيدمن, على الرغم من شكلها الناصع والباهت الا انها استطاعت وبعد ان انفصلت عن توم كروز ان تقدم ادواراً رائعة, مولان روج, الاخرون, دوغفيل, في الساعات حيث الاداء الصعب والمعقد وصعوبة التعرف عليها بسهولة, كتفان محدودبتان, عيون غائرة, صوت وكانه قادم من عالم الاموات, صاحبة مشاكل, سريعة الخاطر, مشاكسة, فيلم (الساعات) هو احتفاء بحياة تحقيقها صعب كما يفترض ان تعاش ساعة بساعة ولحظة بلحظة, قد تكون الاحداث قد دارت في العام 1923او في العام 1951 وحتى في المستقبل الذي يبدو واضحا بقدر ماهو غامض, انه يوم واحد من حياة ثلاث نساء قدمن لنا تجربتهن المريبة والواضحة في آن, جو الفيلم باستطاعته ان يخلق اداءً رائعا,الضوء يلعب دورا رئيسا في خلق التناغم بين روح الممثل ومايدور حوله، كذلك الموسقيى التي وضعها فيليب كلاس, لقد كان لها تاثير بالغ في سير الاحداث ومشاركتها لنا في التوترات التي ادارها المخرج البارع ستيفن داليداري .