الصمت.. لغة وسلاح وطاقة

557

#خليك_بالبيت

أنسام الشالجي /

لم يكن الحظر الذي فرضته جائحة كورونا علينا، ليس في العراق وحده، إنما في شهر آذار المنصرم مثلاً حين كان نحو مليارين ونصف المليار من سكان الكرة الأرضية تحت الحظر للتقليل من عدد الإصابات بهذا الفيروس الشرس، مملا دائماً، فقد جعلنا نتغير في أمور عدة، ولاسيما تفكيرنا وأساليب التواصل مع الآخر حتى إن كان من أفراد العائلة.. وبدءاً من هذه المادة، سنشير إلى المهارات التي اكتسبناها في أسابيع الحظر كلما توفرت لدينا نماذج إيجابية تستحق الإشارة اليها..
السيدة مها، ٥٥ سنة، مهندسة معمارية، سبق أن انخرطت قبل الجائحة في ورشة عمل للسيطرة على النفس إزاء مشاكل يفتعلها زوجها، ما أثر سلباً عليها حتى في عملها، لديها مكتب تصاميم يعمل فيه ١٠ مهندسين ومهندسات شباب، أحدهم متميز جداً، لكنه بدأ يتعامل بفوقية حتى معها ويسيء إلى زملائه وزميلاته، ولم تجد وسيلة لتهذيب تصرفاته، وفي الوقت نفسه المحافظة عليه في مكتبها لمهارته. اتصالها بي قبل شهر كان سبباً لتنظيم ورشة عمل كانت هي المدربة فيها لمدة ثلاثة أيام وبواقع ثلاث ساعات يومياً.. وكانت الورشة عن الصمت كلغة فاعلة أولاً وطاقة إيجابية ثانياً وكيف يؤثر علينا نحو الأحسن حين يصبح أسلوب حياة.

الصمت و السكوت
بدءاً، علينا أن نفرق بين الصمت والسكوت.. فالصمت هو الإصرار على عدم التكلم إزاء حدث، مشكلة مثلاً، قد يزيده الجواب حدة، وغالباً فإن الصمت هو الإحجام عن القول الباطل ضمن اجتماع، مثلاً، هنا نشير إلى الحديث النبوي الشريف الذي يقول “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.” أما السكوت، فهو خيار شخص يقدر على القول، لكنه يسكت لثوان، وحين تطول فترة السكوت يصبح صمتاً.
تقول مها إن زوجها الذي اعتاد افتعال المشاكل، أصبح مع أول أيام الحظر أكثر شراسة، وإن لم يفتعل المشاكل معها، فإنه يتوجه بغضبه غير المبرر نحو أولادهما الثلاثة، وهم طلبة جامعيون، الذين أصبحوا لا يغادرون غرفهم كي لا يصطدموا معه. وفي صباح اليوم الأول من أسبوع الحظر الثاني وكانت تهيئ الفطور في الحديقة، خرج إليها غاضباً وصارخاً بصوت يصل إلى سابع جار بأنها تخطط لإصابتهم بالكورونا بسبب برودة الجو في الحديقة.. وكانت المرة الأولى التي تقرر فيها عدم الرد عليه، انتهت من تحضير الفطور وحضر الأولاد ولم يحضر هو، إنما استمر يصرخ بين فترة وأخرى عن سبب صمتها، وهي قررت أن تعيد مشاهدة فيلم (بيت الأرواح) لتتعلم من شخصيته الرئيسة (كارلا) التي أدت دورها ميريل ستريب، كيف يكون الصمت طاقة وسلاحاً ولغة..

ورشة الصمت
بعد الإعلان عن الورشة تحت عنوان (الطاقة الإيجابية للصمت)، فوجئنا بالعدد الكبير للذين يريدون المشاركة، تم اختيار ١٥ مشاركاً ومشاركة للورشة التي نحن بصددها، على أن نقيم ورشات أخرى. تم تقسيم المشاركين إلى ثلاث مجموعات. ورغم كوني المشرفة على الورشة إلا أنني بدأت في أداء التمارين أيضاً. كان اليوم الأول عن طاقة الصمت التي تمنح للصامت صفاء ذهنياً يساعده في اتخاذ القرار الصائب وفي المواجهة، فإن كان السكوت يعني الموافقة غالباً، فالصمت يعني الاحتجاج بالتعود عليه ويصبح لغة ترغم الآخرين على فهمه، وطاقة الصمت تساعد على شحن الطاقة الإيجابية الكلية وتحمي الإنسان من الوقوع في أخطاء أثناء مناقشة محتدمة.
التدريب
في اليوم الثاني، طالبت مها المشاركين أن يصمتوا لمدة ساعة من خلال أسلوب يختلف عن الآخرين لكل مجموعة للمساعدة في الصمت، وفي الساعتين التاليتين ناقشت كل مجموعة الأسلوب الذي اختارته، الأولى اختارت موسيقى هادئة، والثانية الاستماع إلى القرآن الكريم، والثالثة اختارت إغماض العينين ومعرفة كيف يؤثر الصمت على التفكير الإيجابي. في اليوم الأخير دخلت مها معهم في نقاش حاد، وكان عليهم أن يصمتوا لساعتين ومناقشة النتائج في الساعة الأخيرة. وتبين أن كافة المشاركين كانوا يبحثون عما يمنحهم السكينة، سواء لمواجهة كورونا أو المصاعب اليومية، أو للبدء بعمل جديد. وكانت بين المشاركين، أيضاً، شابة تريد أن تصل إلى أقصى صفاء ذهني لأنها تحاول كتابة رواية بعد أن نشرت قصصاً قصيرة عدة وتلقت نقداً إيجابياً عليها.

و.. أخيراً
نعود إلى مها وحكايتها مع الصمت الذي تعلمه منها الأولاد أيضاً. إذ شعر الزوج والأب في البداية بأنهم يتحدونه، وبمرور ساعات الصمت، أصبح قليل الصراخ والطلبات غير المعقولة، ثم بدأ يحاول أن يفهم لغة أفراد عائلته الجديدة.. وهي الصمت. ومع انتهاء الشهر الأول من الحظر كان قد تعلم اللغة نفسها، وأصبح إنساناً جديداً، يقول إنه أرغم على الصمت في البداية، لكنه فيما بعد جعله ينتبه إلى أخطائه وبدأ يصححها. ومع انتهاء الحظر، عادت مها إلى مكتبها واستخدمت الصمت لغة أو سلاحاً مع المهندس المغرور الذي لم يجد أمامه إلا الاستغناء عن العمل وأجوره المجزية، أو أن يترك غروره ويكسر الصمت الذي حوله، وكان هذا خياره وأصبح متعاوناً مع الجميع.