الطمع الأعمى

988

#خليك_بالبيت

رجاء خضير /

حينما تغمرنا نعمة ما, تنسينا الكثير مما يضايقنا وتبدأ المشاعر تتوحد في دواخلنا ليرتفع صوت (الأنا) التي فرقّت وعذّبت، وتغربت أناس بسببها. ونحن، أين نحن من هذه المفردة البعيدة القريبة من النفوس.. إن رضينا أو رفضنا فنحن جزء من هذه المسيرة الطويلة, فنحن بشرٌ والبشرُ خطّاءون وخيرهم التوّابون!!
(سهام).. ليكن اسم امرأة أربعينية العمر جميلة، آثار النعمة واضحة عليها، قالت بصوت مخنوق: أنا تعبتُ من المحاكم وأروقتها بعد أن أصبحتُ واحدة من روّادها, مع أن قضيتي لا تحتاج إلى كل هذا الوقت، وإليك القضية:
“تزوجنا (أنا وشقيقتي) من ابني عمنا، وهكذا هي العادات: أولاد العم يُفضَّلون على الغرباء. كنت فرحة بهذه الزيجة، عكس شقيقتي التي بكت وتوسلت بوالدي أن لا يجبرها على هذا الزواج, وأمام قسوته وجبروته سكتت ورضيت بقرارهِ”..
تضيف سهام أنهما بعد الزواج عاشتا معاً في بيت العم، وبدأت تلاحظ أن شقيقتها حزينة ولا ترضى بأي شيء يقدمه زوجها أو أهله ما دفعها (سهام) إلى التحدث معها ونصحتها أن تغير أسلوبها هذا مع بيت عمها وزوجها، وحين فشلت شكت شقيقتها لأمهما التي بدورها تحدثت معها مراراً لتغير تصرفاتها. بعد فترة لاحظت أنها بدأت تستجيب للنصائح وصارحتها بسعادتها بتغيير تصرفاتها وقالت الشقيقة إنها تنتظر مولوداً.
تكمل سهام: انتشر الخبر بين العائلتين اللتين فرح أفرادهما كثيراً، لكنني شعرتُ بالحرج والضيق من كلام أهل زوجي معي رغم علمي أنهم يتمنون لي الخير والولد، لكن الأمر ليس بيدي فهي إرادة الله, وبدأت رحلة الأطباء والفحوصات و…و… أرهقتني هذه الأمور نفسياً وكانت أمي تهوِّن عليّ الأمر وتطمئنني بأن كثيرات لا ينجبن بعد الزواج مباشرة بل يستغرقن وقتاً, أنجبت أختي بنتاً جميلة، فرح الجميع بها وكذلك أنا، وبدأت أساعدها في رعايتها للصغيرة, في يوم دخلت إلى غرفة أختي لأساعدها كالمعتاد فسمعتُ أم زوجي تحرضها ضدّي وتوصيها ألّا تترك الصغيرة معي.
قاطعتها سهام وسألتها: ماذا تقصدين يا عمتي؟ وفاجأتها نظرتها وغادرت الغرفة بدون أن تنطق كلمة! وقبل أن تغرق سهام بالدهشة سمعت شقيقتها تقول لها “لا تهتمي فأنا أختك.. هل تعتقدين أنني أصدق تحذيرها هذا”، وقبلتها قبل أن تخرج من غرفتها.
في العام التالي أنجبت الشقيقة بنتين توأمين، فاقترح زوجها أن تأخذ سهام واحدة من التوأمين لتربيها إلى أن يمنّ الله عليها بالذرية الصالحة، ولاسيما أن الاطباء أكدوا لها ولزوجها بعدم وجود أي مانع للحمل. فرحت بضم ابنة أختها لها رغم معارضة أم زوجها التي افتعلت المشاكل، لكن ولديها (زوجها وزوج أختها) طلبا منها عدم التدخل بأمور عائلتيهما.
سارت الحياة طبيعية باستثناء بعض المنغصات من قبل أم الزوج، وكانت سهام تعتني بالبنت (ليكن اسمها هبة) وكأنها ابنتها فعلاً. كانت هبة مدللة سهام وزوجها الذي هو عمّها في الحقيقة، استغراقها في تربية هبة والعناية بها أنستها مراجعة الأطباء والأدوية..
وتعود سهام لتكمل قصتها وتقول “وفي يوم جاءني والد هبة (أخو زوجي) ليخبرني بأنهُ سيكتب الطفلة باسمي وباسم زوجي, وأكدت أختي كلامه، وفاجأني الخبر وقبل أن أنطق بكلمة، أخبرتني شقيقتي أنها حامل!”
أخبرت سهام زوجها بالفكرة التي أفرحته كثيراً وخرج من الغرفة مسرعاً ليعانق شقيقهُ وبأنه سعيد بهذه الخطوة, لكن السعادة لم تدم طويلاً فقد علمت أمهما بالخبر وأشعلت البيت بالمشاكل والكلام السيئ الذي وصفت ابنيها به ثم خرجت من البيت ليأتي والد سهام مساءً مستوضحاً، وبعد أن فهم الأمر، تدخل بالحسنى وغادرهم بعد أن حُلت المشكلة.
وهكذا صارت هبة ابنتها وبدأت تبذل كل جهودها لتربيتها تربية صالحة وصحيحة وإسعادها. مرت السنوات وأصبحت هبة تلميذة في الابتدائية، ومع فرحتها بها شعرت سهام بشيء ما يتحرك في أحشائها، وحينما ذهبت إلى الطبيبة التي كانت تتابع حالتها، أخبرتها بفرح بأن الله قد استجاب لدعائها وأنها حامل. لم تصدق سهام وسارت إلى البيت وكأنها تطير وأخبرت زوجها والأهل، ومع فرحتهم اتصلت بأمها التي سمع الجميع (هلهولتها) عبر التلفون. ونظرة حائرة في عيني أختها وزوجها جعلتها تقطع حبل مخاوفهم قائلة “لقد رزقني الله بهذا الجنين من أجلها هي, فهي طائر السعد لي, لن أتخلى عنها أبداً فهي ابنتي قبل أن أنجب مولودي”، وهنا تدخلت أم زوجها بمقترح أدهش الجميع وهو أن يكتب ابنها (زوج سهام) نصف ما يملك لهبة.
صمت الجميع من هول ما سمعوا, بعد ثوان أكد الزوج موافقته وطلب أن يكون الجميع شهوداً على وعده.
وتكمل سهام: “ومضت أشهر الحمل سريعة وأنجبت بنتاً جميلة, وقسمت وقتي بينهما وأصبحتا شقيقتين تحبان بعضهما، وبدأت هبة تأخذ دور الأخت الكبرى، ولاسيما حين أصبحت الصغيرة في المدرسة ولم تعرف أنها من أم وأب آخرين، وكلما حاولت أم زوجي أن تخبر الابنتين بالحقيقة، نطالبها أن تنتظر لتكتشفا هذه الحقيقة بنفسيهما”..
وفي يوم تأخر الزوج عن موعد عودته من الواجب، وعند المغرب أخبرت سهام أمه وشقيقه وأصبح القلق يتعبهم ما دفع بشقيقه إلى الاتصال بوحدته العسكرية، وانتبهت أن وجهه شحب وأن يده ترتجف، وقبل أن يغلق الهاتف صرخ بصوت عال: “أمي لقد استشهد أخي أثناء تأديته واجبه”.. صرخنا جميعاً واجتمع الجيران والمعارف وجاء الأقرباء وسهام صامتة من هول الصدمة وفي قلبها طاحونة من الأسئلة؛ كيف ستواجه الحياة بدونه، وكيف ستدبر أمرها في هذا الزمن الصعب؟ فقد كان حبيبها ورفيق سنواتها الحلوة والمرّة. بعد انتهاء فترة الحدِاد انتقلت للعيش مع أهلها برفقة ابنتيها, وبدأت إجراءات معاملة التقاعد والقسّام الشرعي وما يترتب على ذلك، وفي ظل هذه الأحزان فوجئت بأم زوجها وشقيقه (زوج شقيقتها) يطالبانها بالتنازل عن البيت الذي يمتلكهُ زوجها والمصنع الذي أسسه بجهده المستمر, وإلا سيأخذون هبة منها!
صرخت سهام: كيف ولماذا وفي هذا الوقت بالذات؟ ردّ شقيق زوجها بهدوء: “عندك ما يكفيك للعيش برفاهية، وهل كنت تعتقدين بأننا وهبنا ابنتنا مجاناً؟”.. وأضاف أن أخاه كان يمتلك الكثير وقد اتفق معهُ على أن يتنازل له عن البيت و…، ولم تدعه سهام يكمل كلامه وصدرت منها صرخة ودفعته بكل قوتها إلى الوراء والتفتت الى شقيقتها وسألتها: وأنتِ هل كنت تعلمين بما يقوله زوجك واخفيتِ ذلك عني؟ وكان جوابها دمعة، وطالبها زوجها بالصمت، وقبل أن تقول كلمة إضافية، أخرج الشقيق أوراقاً من حقيبة كان يحملها قائلاً: “انظري، هذه أوراق تثبت كل الاتفاقات بيني وبين شقيقي!” صرخت سهام أنها أوراق مزورة ولو كان قد تنازل لهم لكان أخبرها، ولاسيما أن زوجها الشهيد لم يكن يخفي عنها سراً.
حاول أهلها التدخل وحل القضية بينهم بالحسنى، ورفضت سهام رغم تهديد شقيق زوجها باسترجاع هبة وإبلاغها الحقيقة.. لم تستسلم سهام واستشارت محامياً بارعاً فأكد لها أن القضية لصالحها إن كانت الأوراق مزوّرة.. ورفعت القضية، وشقيق زوجها تمكن من شراء بعض من يساعدونه في (منح) صدقية للأوراق المزوّرة، ما تسبب في تعقيد القضية وإطالتها في أروقة المحاكم، الأمر الذي دفع شقيق زوجها بتحريض من والدته إلى كشف الحقيقة أمام هبة وانتزاعها منها بالقوة.. الآن تنتظر هبة بدموعها أن تنتهي القضية سواء لصالح سهام، أو كما تناديها (ماما)، أو لصالح والدها البيولوجي لتعود إلى الأم التي سهرت عليها وربّتها وأوصلتها إلى الإعدادية بتفوق وتشعر بحزن كبير لدفع طمع والدها للتعامل معها كسلعة للكسب..
وتنتظر سهام بدموعها أيضاً أن تنصفها المحكمة التي تثق بعدالتها وتسترجع أملاكها وابنتها هبة التي تنتظرها أختها الصغرى بشوق ..وتتمنى أن تعرف موقف شقيقتها، والدة هبة البيولوجية، من كل ما يجري وهل كانت تعرف أم لا؟