العائلة قد تكون عوناً على نجاح باهر أو سبباً للفشل

549

#خليك_بالبيت

ريا عاصي /

طالب في السادس إعدادي بفانلته الداخلية البيضاء يفترش الأرض ويضع دفتر إجاباته على مقعد مكسور وهو يؤدي امتحاناته النهائية في السنوات المنصرمة، من منا لا يتذكره؟
قاعة بلا كهرباء ولا مراوح ولا تبريد وبمقاعد بالكاد تصلح للجلوس، طلبة بلا كتب جديدة ومناهج غير مطورة، مدارس بلا مياه وبدوام مزدوج ، طرق غير معبَّدة ونطلب منهم معدلات عالية. هل فكرنا حقاً ماذا أعطيناهم؟ كيف رفّهنا عنهم؟ كيف نسعدهم وهم بعد أقل من خمس سنوات ستتعبهم الظروف بحثاً عن فرصة عمل.
كابوس معروف
مهما كان عمرك، ومهما كانت مكانتك، لكنك ما إن تمر بمأزق فستحلم بأنك تمتحن البكالوريا وقلمك لا يكتب أو أن أوراقك نفدت، أو أن الوقت يكاد ينتهي قبل أن تنتهي من الإجابة، أو أنك حافي القدمين، كلها كوابيس مرّت بي وبأبي وأختي وصديقتي وخالتي وزملائي.
هذا الضغط النفسي الذي يتملك الشخص، وهو عند حد فاصل من عمره، تكون نتيجته تقرير مصير مستقبله، كلنا مررنا به، البعض هزَّته النتيجة نفسياً فجعلته ينهي حياته، كما قرأنا وسمعنا عن حالات انتحار هنا وهناك، بسبب التعثر في الامتحانات، والبعض الآخر كان محصناً نفسياً ويعرف أنه سيجتازها بأفضل الدرجات، والبعض رضي بأية درجة وبأي قبول قادم من القبول المركزي دون حلم أو تخطيط، أما البعض الآخر فقد ظل حالماً.. ومازال يحلم.
واجبات… سعادات
أراجع نفسي بين فترة وأخرى منذ يوم ولادة ابني.. ترى ما الذي كرهته في تربية أهلي لي ولا أريد أن أعيده؟ ماهي النسخة التي كنت أتمنى أن أكونها أو يريدها أهلي؟
أذكر أنني جلست لأربعين يوماً داخل جدران المنزل دون خروج، وكنت أؤدي واجبات المنزل من تنظيف وترتيب ومساعدة والدتي الموظفة.. لكنني حرمت من الخروج وملاقاة الأصدقاء والذهاب للمسبح ككل صيف.. هل كان عليهم أن يفعلوا ذلك؟
أذكر أن نصيراً، ابن جارنا، قام والده بحلاقة رأسه (نمرة صفر) ليجعله خجلاً من منظره، وبذلك يضمن عدم خروجه من المنزل ومراجعة دروسه.
صديقتي ليلى استعانت بمدرسين خصوصيين بمبالغ ضخمة كونها من عائلة ميسورة، وكان يومها ينقضي بين الذهاب من منزل لآخر لمتابعة حصصها الخصوصية.
انتهى عامنا الدراسي ونجحنا باختلاف المعدلات، هديتي كانت أن يعلمني أبي قيادة السيارة، وهدية ليلى كانت سيارة، أما نصير فقد أعاد عامه الدراسي بأربع مواد.
حين كبر ابني في المهجر فوجئت بأن سنته الأخيرة كانت حافلة بالحفلات والسفرات والمهرجانات التي تقيمها البلدية ومدرسته والأهالي، فجميعهم كان يحاول أن يخفف ضغط الاختيار وصعوبة الامتحان ليسعد أبناءه.
لحظتها عرفت أني تربيت على الحقوق والواجبات.. لا على السعادات.
واجبات الأبوين
هل سنعيد ذلك ونورثه للأبناء؟ إننا نعتبر المدرسة الخاصة والكتب الجميلة والملابس الملونة هي السعادات، بينما ننسى أن تلك هي واجبات الأبوين وكل الأهالي، فطفلك أنت من جلبه للحياة، وأنت من تتخذ عنه القرار حتى بلوغه الثامنة عشرة، علّمناهم الطاعة والعمل وتقديس المقدسات، لكن هل علّمناهم كيف يطوون أحزانهم وخيباتهم ويعبرونها للفرح والسعادة؟ هل أسعدناهم حقاً؟
هذا السؤال سألته لمجموعة من الأصدقاء فكانت تلك هي الإجابات:
ماهي السعادة حقاً؟
راما بشار، مهندسة معمارية، خمسينية، أم لأربعة أبناء أصغرهم يستعد للبكالوريا، تجيبني بقولها “دعينا نعرف ما هي السعادة” وتضيف “عتبي على والدتي التي كانت تعتبر نظافة المنزل واجباً مقدساً، وليومي هذا حين أتعب أو أمر بضغط نفسي في العمل أو في المنزل، أقوم بتعديل البيت وتنظيفه بجهد لأشعر بالسعادة لأن منزلي يلمع ولا توجد لدي ملابس أو ستائر أو شراشف متسخة، لكن حقاً هل هو هذا معنى السعادة؟” وتكمل حديثها “أتذكر الكارتون الروسي عن الحمار الذي يبحث عن السعادة، واكتشفها في محبة الآخرين له من خلال محبته لهم، لكن كيف تقنعين المراهق الذي يمتحن من أجل الحصول على معدل يجعله فخوراً بنفسه؟ إن السعادة بصحته وسلامة عائلته، خاصة أن الشريحة الأكثر حاجة للأشياء وتعتبر الماديات هي السعادة هم المراهقون، شخصياً أحاول أن أرفِّه عن ابني الذي يستعد للامتحانات النهائية بفن، رتبت له إحدى غرف البيت بصبغ جدرانها باللون الأخضر، وملأت زواياها بالمزروعات ووضعت فيها شاشة كبيرة وتبريداً جيداً، يستقبل فيها أصدقاءه، وأصبحت بديلة للمقهى بسبب كورونا، المشكلة أنه لا توجد نوادٍ تهتم بهذه الشريحة وتطور مهاراتهم، فضلا عن كورونا.. أنا متمكنة مادياً، من لا يمتلك ذلك كيف سيوفر جواً مريحاً لابنه؟”
لابد من
أم زهراء من البصرة، خمسينية، ربة بيت، تقول:”من الضروري قبل الامتحان التحضير، ولكن لابد من فترة ترفيه تتخلله بين وقت وآخر. أما في وقت الامتحان فالحبس يزيد التوتر والساعات لا تفيد التحضير، لذلك أثناء تأدية الامتحان يجب رفع الضغط عنهم (اللي بيهم مكفيهم)، المهم والأهم توفير الكهرباء، ولا مانع لدي من أن اتحول إلى مروحة لهم وقت التحضير”.
يوسف التميمي، أربعيني، صحفي، أب لبنات في الثانوية، يقول “أرى أن الاهتمام بسعادتهن ضروري، والترفيه عنهن قبيل الامتحانات بشكل معقول قطعاً إيجابي، لكن الإكثار من الخروج المنزلي على حساب التحضير للامتحانات أمر غير محمود، فكل شيء إن زاد عن حدِّه انقلب ضده”.
الظروف
نوف عاصي، ثلاثينية، تعمل كخبيرة تمكين للمرأة في مناطق الصراع المسلح، تقول”والله (ست سوزان)، والدتي، كانت تهددني، حين لا تكون درجاتي كما ترغب، بأنها سترغمني على ترك المدرسة.” وتضيف “أن سبب رهبة السادس والبكالوريا برأيي المتواضع ليست صعوبته، إنما بسبب نظام القبول المركزي الذي أصبح نظاماً غير عصري لأنه يحدد مستقبل الشخص بناءً على المعدل الذي قد يتأثر بالظروف المختلفة”. وتعطي نوف مثالاً على الظروف وتقول “في حالتي، مثلاً، كنت أؤدي امتحانات السادس عام ٢٠٠٧، أي في خضم الحرب الطائفية، وكانت مدرستي في منطقة الأربعة شوارع – اليرموك، وكان لتلك الظروف ومخاوفي تأثير سلبي كبير على أدائي وبالتالي على معدلي”.
العائلة العون
هايدة حداد، ثلاثينية، ناشطة مدنية، أم لطفلة صغيرة تقول “أثناء التحضير للامتحانات النهائية، كانت أمي تصطحبني إلى النادي وتساعدني في ترتيب غرفتي لتهيئة زاوية للدراسة، وأثناء المراجعة كانت تسمح لي بفترات ترفيهية، كالذهاب إلى مطعم.” وتضيف “أتمنى لابنتي حين تكبر إلغاء البكالوريا وإن استمرت فأنا قررت أن لا أزرع المخاوف عندها بل سأقنعها أن امتحانات البكالوريا لا تختلف عن الامتحانات الأخرى”.
حنين فارس، في بداية الثلاثينات، أم لولدين من البصرة تقول “كان أهلي عادة وقبل الدخول في فترة المراجعة يصطحبوننا في سفرة قصيرة حتى نستعد للدراسة والامتحانات بروح معنوية عالية، وسوف أتعامل مع ابنيّ مثلهم ونخرج معاً في سفرة صغيرة قبل امتحانات نصف السنة ونهاية السنة”، وتضيف “حين كنت في السادس، كانت فترة المراجعة ٤٥ يوماً، وكنا ننظم جدولاً يومياً لأوقات الدراسة والاستراحات القصيرة وعدد ساعات النوم، وجدولاً آخر يحدد المدة التي تحتاجها كل مادة للانتهاء من مراجعتها.” وتكمل حديثها “أن فترة شهرين للمراجعة والامتحانات ليست بفترة طويلة من الحرمان الذي سيؤثر على نفسية الأبناء ولاسيما إذا فُسح لهم مجال للترفيه عن أنفسهم قبلها”.
روز الشمري، ثلاثينية، طالبة دكتوراه وأم لطفلة تقول “كان والدانا قبل المراجعة يهتمان بما نحتاجه فيصطحباننا إلى مطعم مثلاً، وفي يوم الامتحان كانا يأخذاننا بالسيارة (نفتر) أو نتعشى في مطعم.. البكلوريا يحدد مصير الأبناء، لذلك لابد من الاهتمام بسعادتهم وراحتهم النفسية ولاسيما أن شروط القبول المركزي ليست عادلة.”
احترام الوقت
رانيا نشأت، عشرينية، عازفة في الأوركسترا العراقية وأم لطفلتين وناقشت قبل فترة أطروحتها للماجستير في العلوم، تقول “أهلي لم يمنعوني من المشاركة في عروض الفرقة السيمفونية داخل العراق وخارجه، لكنهم عودوني على تنظيم الوقت، كان والديّ يؤكدان أن الذي يحترم الوقت سيحترم الدراسة أيضاً وأن للدراسة وقتها كما للترفيه وقته، وهكذا كنت وما أزال ناجحة وهذا ما سأربي ابنتيّ عليه.”
ترفيه
سهى المحمدي، أربعينية، رسامة، أم لابنتين تقول “كنت أسمح لابنتي بفترات ترفيه حتى أثناء المراجعة، ولا أعرف لماذا كنت عندها (أنكد) عليها، ولكن يبدو أنني مهما اهتممت بسعادتها نسيت أن أعلمها أن تهتم، بدورها، بسعادتي”.
العائلة السبب
حيدر علي الشيخ، شاب عشريني، موظف، أب لطفلة، يقول” ليست كل عائلة تلتفت إلى تحسين الحالة النفسية للابن أو الابنة اثناء الاستعداد للامتحانات، النهائية خاصة، وغالباً تكون هي (العوائل) سبباً في دفع الطالب إلى حالة نفسية سيئة، إذ يهددونه في حال عدم حصوله على معدل عال بأنهم سيعاقبونه ما يدفعه إلى قلق كبير يؤثر على مراجعته ومن ثم على أدائه للامتحانات”.
مصطفى حسام، موظف، عشريني يقول “أتذكر قول أهلي لي إن السعادة رفاهية زائدة في حياة الإنسان ونستطيع أن نعيش بشكل طبيعي بدونها، والمشكلة أنني صدقتهم، لكن الحياة علمتني أن السعادة ضرورية.”
درس
الدكتورة نهلة النداوي، خمسينية، أستاذة جامعية تقول “ليس عندي أبناء يستعدون للبكالوريا، لكن تجربتي فيها كانت قاسية، فالتنافس في إعدادية الحريري كانت شرسة وكنا نأخذ دروساً إضافية قبل وبعد الدوام، أي أننا كنا ندرس من السابعة صباحاً إلى الثالثة عصراً، ونرجع إلى البيت للدراسة أيضاً، كاد القلق أن يقتلنا، علماً أن نتائجنا كطالبات كانت لا تختلف عن المدارس الأخرى، فبيننا كانت الأولى على العراق والوسط ومنا من أعادت العام.” تضيف “في زيارة لعائلة صديقة في عمان، عرفت أن امتحانات ابنتهم ستبدأ غداً وكم شعرت بالخجل لأنهم دعوني إلى مطعم وأدهشتني ابنتهم الطالبة بهدوئها والعائلة بمرحها، وبعد الامتحانات حازت على معدل أعلى من ٩٠% وحينها تعلمت درساً كبيراً في الحياة أثر كثيراً على أفكاري وتقييمات أخرى عندي لاحقاً.”
ضحى هاشم، صحفية، عشرينية، تقول “لسنتين كاملتين كنت من البيت إلى المدرسة فقط، وإن سمحوا لي بالخروج لزيارة أقرباء مثلاً، كان التأنيب يستمر لأيام، وحتى الآن، وعمري ٢٧ سنة، أحلم بكابوس البكالوريا وأنني لن أصل المركز الامتحاني في الوقت المحدد وأستيقظ من النوم فزعة”.
الصحفية هناء رياض، ثلاثينية، وأم لثلاثة أبناء، تقول “نعم بالتأكيد أهتم بسعادة الأبناء، ولكن للأسف ليس هناك الشيء الكثير لفعله في مجتمعنا الذي يفتقر إلى نواد للشباب لخلق العلاقات الاجتماعية الصحيحة، ومع كورونا ازداد الضغط وقلت عناصر السعادة.” وتضيف “أحاول أن أشجعهم على تجاوز القلق وتذكيرهم أن كل شيء قابل للتغيير، وحين يمرّون بأزمة مثلاً، أبتكر لهم أي نشاط ترفيهي، مثلاً تشغيل الموسيقى بأعلى صوت والتنطيط معاً والضحك بصوت عال”.