الفنان الفوتغرافي مراد الداغستاني

653

لم يكن الفوتوغرافي مراد الداغستاني مجرد مصور فوتوغرافي بقدر ما كان أرشيفاً من الصور النادرة التي وثق بها أغلب المفردات الحياتية لمدينة الموصل الثقافية والفنية والخاصة، ملتقطاً عبر كاميرته وعدسته الذهبية لحظات توقف فيها الزمن للحظات ليؤرشفها بحس الفنان ويرسم لوحات هي أقرب للخيال وعبر عقود من الزمن كان متوسداً خلالها كاميرته يصوّر هنا ويلتقط صورة من هناك. قضى أيام شبابه ليسجل بعين فاحصة وإحساس مرهف حياة المجتمع الموصلي.
السرد الفوتغرافي
في بيئة موصلية وفي العام 1917 ولد الفوتغرافي مراد الداغستاني وكأن عينيه فتحتا لأول مرة لتوثقا لحظات ستتلاشى بمرور الزمن, مرت السنون ومازالت عين هذا الفتى تسجل وتوثق الحياة الموصلية في شارع حلب وسط مدينة الموصل وفي مشغله الفوتغرافي. صوره المعلقة على الجدران جعلت المكان مثل معرض تشكيلي تتمازج فيه اللوحات الفنية دليلاً على عبقرية من التقطها، رجل يجلس وراء منضدة، سيكارته بين شفتيه والرماد المتطاير في تناغم مع (نيكتف) الأبيض والأسود، وهو يحدق به وكأنه أمام لوحة ما يضع لمسه هنا ولمسة هناك ليرسم قصة تلك اللقطة. مازالت عيناه تختزلان صور الصيادين وعشقهم للنهر, الكسبة والطبقة المقهورة من عمال ومزارعين بسطاء ومجانين ربما لم تعد لهم الحياة سوى لحظة من الزمن توقفت في يوم ما ليوثقها فيما بعد.
الداغستاني في لقطاته لتلك النماذج المسحوقة سجل انطلاقته الأولى في عالم التصوير ليضع قدمه على أول الطريق الى العالمية, معتمداً في عمله على السرد الواقعي لمجتمع معاش وعلى الوصف وبناء اللقطات والعلاقة التعبيرية في نمط متجدد يبتكر فيه الشخوص من خلال عين ثاقبة ربما ترى ما لايراه الآخرون. التصوير لدى مراد الداغستاني هو تشكيل يؤدى أدواراً عدة ويقيم الوظائف داخل البناء الفني للقطة، ويطرح الوقائع والمتغيرات التي تنتج عن مخيلة المصور وتجربته التي يستعرضها في دلالات التعبير عن الواقع. في أعمال الداغستاني توظيف فني دقيق للفكرة يؤدي الى مزج دقيق وجميل بين الواقع والخيال وتظهر اللقطة الواحدة محملة بالعديد من المعاني والصور الجزئية معتمدة على تركيبين واقعين في آن واحد ما يؤدي الى استلهام الأفكار الفنية التي تنتج دلالات وتتيح للتجربة الذاتية أن تستعرض الواقع بطريقة مبتكرة تجمع بين واقعية الفكرة وخيال الصورة، وذلك ظهر جلياً في تصويره لحركات الناس.
رحلة الضوء
بدأ رحلته مع التصوير الفوتغرافي في العام 1935 وفي زمن لم تكن فيه وسائل الاتصال بين الشعوب كما هي عليه اليوم، إذ استطاع الفنان الفوتغرافي العالمي الموصلي مراد الداغستاني بجهوده الشخصية أن يشارك في أكثر من تسعين معرضاً للتصوير الفوتغرافي داخل العراق وخارجه, منها معرض “الإنسان والبحر” في يوغسلافيا عام 1965م، ومعرض “مئة صورة عالمية” في ألمانيا. فضلاً عن ظهور صورهِ في عشرات الألبومات الخاصة بالتصوير الفوتغرافي العالمي ونشرت عنه دراسات تحليلية عدة في مجلات عالمية منها مجلة (التصوير الفوتغرافي) الإنكليزية والمجلات العراقية والعربية. وفاز الداغستاني بعدة ميداليات من دول عالمية مختلفة وحصل على شهادات تفوّق من ألمانيا والبرازيل وفرنسا والصين ويوغسلافيا، كما حصل على شهادة الإبداع من البرازيل وكان طليعة لثمانية فنانين فوتغرافيين في العالم منحوا هذه الجائزة. عرضت صوره في أكثر من ثلاثين دولة حول العالم منها فرنسا، ايطاليا، يوغسلافيا، انكلترا، السويد والأرجنتين. منحته الدولة هدية تقديرية عام 1975م وكرّمته بين الأوساط الثقافية الرسمية في محافظة نينوى ونحت له الفنان “هشام سيدان” تمثالاً نصفياً.
داء السرطان الذي أنهك جسده لم ينهك روحه وعينه العاشقة للضوء والوجوه المتعبة. كان يجيد فن البقاء على الحياة من خلال زرع الحلم في حياة الناس تاركاً مع كل ضغطة زر للكاميرا ابتسامة كبيرة على وجوه بانت تقاسيم الزمن والعوز على وجناتها, في يوم 27 من شهر تموز لعام 1982 رحل الفنان العالمي الموصلي الفوتغرافي الكبير مراد الداغستاني إلى دنيا الآخرة بعد صراع مرير مع المرض, داعبت عينه الكاميرا عام 1935 وأغمض عينيه للمرة الأخيرة على مشهد مظلم عام 1982, تاركاً آلاف الصور الفوتغرافية التي قام باقتناصها وتسجيل وتوثيق لتاريخ مدينة عبر صور مليئة بالحياة ومفعمة بالأحاسيس.