الكفيل… الخاسر دائماً

1٬000

رجاء خضير /

خيوط المحبة والحنان، علينا ألّا نقطعها لأي سبب كان، فهي ديمومة الحياة والنجاة مما قد يوقعنا في أخطاء ليست بالحسبان، فهي نبراس يفتح أمامنا الطرق المغلقة في زمن تستغربها الأجيال ويصفونها بالقِدم وبأنها لا تنفع لشيء، فأصبحنا ندور في أفلاك شتى،

وتهنا في عالم ليس له قرار بسبب ضعف القيم والمبادئ وهذا هو التيه الحقيقي….

امرأة تجاوزت الخمسين من عمرها، معروفة بالتقوى والإيمان في منطقتها التي تسكنها منذ القدم، بقيت فيها لاعتزازها بالناس ونخوتهم ومساعدتهم لها حينما توفي زوجها وتركها مع خمسة أطفال يصارعون قسوة العيش، ولكنها تغلبت على ظروفها القاسية بإرادتها القوية وتشجيع الأخيار في محلتها، كسبت رزقها وهي في البيت، تعدُ الخبز، وبعض الأغذية المجمدة، كافحت من أجل أولادها لمواصلة دراستهم فكانت دائماً تقول لهم (العلمُ سلاحكم في هذه الدنيا).

كان أولادها جميعاً متفوقين في مدارسهم، بل حتى في الجامعة بعد أن وصلوا إليها بفضل والدتهم وجهودها، وكم تمنى الابن الأكبر أن يعمل ويتعين، عندها يطلب من أمه أن ترتاح وتترك العمل ولكنها كانت تحثه على بناء مستقبله ومستقبل أخوته.

 

في إحدى الأمسيات طرقت جارتهم الباب لتخبرها بأنها قد خَطبت فتاة لأحد أولادها، وأن أهل خطيبته اشترطوا عليه أن يشتري لها ذهباً بقيمة عشرين مليون دينار، وبدورها ذهبت الى إحدى النساء اللواتي يبعن الذهب بعد زيادة الفوائد عليه، وهذه لن تبيعها الذهب إلا بوجود كفيل ضامن لها، لذا أتت تتوسلها أن تتكفلها وتذهب معها! وافقتها مباشرة لطيبة قلبها ولأنهم جيران طيبون ذوو سمعة حسنة في المنطقة، وحينما رأتها بائعة الذهب فرحت وأعطتها ما تريد، واتفق الجميع على أن تسدد ماعليها شهرياً المبلغ المتفق عليه، سارت الأمور طبيعية وتزوج ابن الجارة، وكلما شاهدوا (صاحبة القضية) شكروها جداً على وقفتها معهم…

 

أخذ التعب والجهد ينهشُ جسد الأم، لذا حدثها أولادها بأن تترك العمل نهائياً وترتاح، لاسيما وأن البنات قد تزوجن والابن الكبير يعمل في محل لبيع المواد الغذائية لحين تعيينه في إحدى الدوائر، أما الابن الأصغر فما زال يدرس في إحدى الجامعات.. وهنا سمعت كلامهم وتركت العمل وحَمدت الله على نعمة طيبة أولادها وحبهم لها…

في يوم شتائي قارس، زارتها المرأة التي تبيع الذهب، وأخبرتها أن جارتها لم تسدد منذ ثلاثة أشهر، لذا عليها أن تتدخل لتدفع ما ترتب عليها من مبالغ، وعدتها الأخرى خيراً، في اليوم نفسه ذهبت الى جارتها لتذهل مما سمعته من أنها سافرت الى ابنتها في المحافظة(!) وأيضاً أولادها انتقلوا الى سكن آخر…

 

سألت : ومتى حدث هذا؟؟

-منذ مدة بسيطة!! وعادت تجرُ قدميها الى البيت وحدثت ابنها بما سمعته، وطلبت منه أن يسأل عنهم ويستفسر عن عنوانهم الجديد!!

وبدأت مسيرة البحث عنهم.. إنهم أناس صادقون، لا شائبة عليهم طيلة وجودهم في المنطقة! إذاً ماذا حدث لهم!

 

بدأت الأم تنهار مع الأيام، ومع تهديد صاحبة الذهب: هي لم تعط المرأة شيئاً الا بكفالتها، هذا ما قالته لأولادها الذين كانوا يجهلون هذه القصة.

مرضت الأم من شدة تفكيرها، وكيف تسدد هذا المبلغ الكبير، تدخل ابنها الكبير ليخفف عنها بأنه سيعمل ليل نهار من أجل تسديد المبلغ، عسى أن يعود الذين أخذوا الذهب! وهكذا عمل وأيضاً شقيقهُ الأصغر، وعادت هي الى عملها القديم، وكل ما كانوا يحصلون عليه يسددونه فوراً…

طرقات عنيفة على الباب، وحينما فتحتها وجدت بعض رجال الشرطة يسألون عنها، خافت وارتجفت وسألت بعبارة تكاد لا تُسمع: ولماذا تسألون عني؟؟

قال أحدهم أن فلانة (!) قد قدمت شكوى ضدك فأنت كفيلة (!) التي اشترت منها الذهب ولم تسدد المبلغ!!

استعانت بالجيران الذين يعرفون القصة، وبعثت أحدهم لابنها الكبير الذي حضر مسرعاً، وتحدث معهم طويلاً وطلب منهم أن يأخذوه بدلاً من أمه فهي مريضة : لم يوافقوا.. ورافقها الى مركز الشرطة حيث كانت هناك بائعة الذهب وتوسل اليها أن تسحب الشكوى، ووعدها بأنه سيسددها، أليس هذا ما اتفقنا عليه.

لم توافق، بل وطلبت منه أن يسددها كل المبلغ!

حاول الجميع معها دون جدوى، طلب منها مهلة لحين بيع دارهم كي يعطيها المبلغ بشرط أن لا تبقى أمه في السجن!!

 

وهنا لمعت عيناها بالمكر والخبُث وطلبت منه زيادة على المبلغ كي تسحب الشكوى ضد أمه…

وافق بدون تفكير وسط ذهول جميع الحاضرين، بما فيهم منْ كان في مركز الشرطة، بكت الأم واحتضنتهُ وقالت وسمعها الجميع (تصرفتُ بحسن نية ولتسهيل الأمر، ولم اعرف أنه فخُ ) وهذا جزائي يا ابني.