المئة خطوة هي الحد الفاصل

692

مقداد عبد الرضا /

لم يكن السلاح يوما ما هو من وحّد العالم ولن يكون, هناك اشياء بسيطة وحميمة من الممكن أن تعمر القلوب وتجعلها مجتمعة بحب, يقول نيكوس كاونتزاكي في يومياته “الطريق الى كريكو” فيما معناه: لقد التقيت مرة في أحد المطاعم بشخص أحببته دفعة واحدة لكن لم يكن أحدنا يعرف لغة الآخر, لقد كان ذكيا هذا الشخص ولكي يقرب المسافة بيننا أخذ يصعد فوق الطاولة ويرقص بطريقة تجعل الفهم سريعا بيننا, جميلة هي الحياة حينما نتذوق طعام محبتها الآسر, تحيا الشمس وليمت الظلام.
قبل سنوات نبهني الصديق العزيز الشاعر الراحل رياض قاسم الى واحد من اهم الكتب التي انجزتها الروائية ايزابيل الليندي والمعنون (افروديت) الذي يتناول سحر اعداد الطعام عند شعوب العالم ورغبات الجسد وتنويعاته. فكانت متعة ومعرفة رائعة , وقبل ايام نبهتني الصديقة العزيزة نرمين المفتي مشكورة الى فيلم نحن الان في صدده والكتابة عنه (رحلة المائة خطوة), يبدو ان المخرج السويدي لاس هالستروم له ولع واضح في خفايا المطبخ واعداده, ففي العام 2000 قدم لنا واحدا من اجمل افلامه(شكولا) الذي يتحدث عن تألق الجسد ومعافاته عن طريق مدام روشيه(جوليت بينوش) التي تحط في قرية نائية وتفتتح محلا مع ابنتها للعلاج بمادة الككاو ولتحدث ضجة في تلك القرية تقود الى صراعات, هنا في فيلم (رحلة المائة خطوة) ياخذنا هالسروم الى رحلة طعام طيبة, هو حسن اقبال كاظم المولود في العام 1990 في الهند وتحديدا في مدينة بومباي من اب ميسور الحال وام تجيد طهو الطعام وتعرف كل اسراره والتي ماتت جراء احداث عنف, هذه الاسرار يظل حسن يحملها معه اينما حل.
-تحت هذه القوقعة اسرار تعلمك كل الأحاسيس, لكي تتعلم الطهو عليك ان تقتل وتصنع الاشباح, تطهو لتصنع اشباحا, الارواح التي تحلق في كل مكان .
الطعام اشارة, الطعام ذاكرة تهشم شوكة التوترات, الطعام رائحة, الطعام حزن قاتل, الطعام جسد, بل اجساد, موت الام كان سببا في الهجرة والاغتراب, الاب العنيد والابناء الاربعة يقررون الرحيل والوجهة لندن, لكن هذه المدينة تضج بالضوضاء, مطار هيثرو يجعل العائلة تقرر المغادرة الى فرنسا, ريف فرنساء البديع, تنحشر العائلة في سيارة قديمة والاب العنيد هو الذي يقود, تنحرف السيارة عن الطريق ويكاد الاب والابناء ان يكونوا ضحية,(انك مهما صنعت وجاهدت في حياتك المغتربة ومهما اشادوا بك وصفقوا لك ,لابد ان تاتي اللحظة التي تقف فيها في الطابور تنتظر تجديد اوراقك في الاقامة). فجاة يظهر وجه ملائكي عذب, انها الطاهية ماركريت الحلوة, خيط حب خفي ينشأ في اللحظة الاولى بين ماركريت وحسن, العائلة لاتعرف الى اين تذهب في هذا الفضاء الشاسع, تقترح ماركريت ان تاخذهم الى نزلها وتقدم لهم الطعام والمبيت ليلة واحدة, اثناء الاكل ينتبه الاب الى طريقة اعداد الطعام لذلك هو يسال عن الكيفية التي اعد فيها فتجيبه ماركريت, وبما ان المكان يقابله مكان مهجور تتفتق في ذهن الاب فكرة انشاء مطعم يقدم الطعام الهندي الذي تجيده العائلة, ربما ليس حبا في المطعم بل تخليدا لروح ام العائلة التي راحت ضحية العنف, بين عناد الاب ورفض ابنه حسن ينتصر الاب ويشتري المكان ويبدا باعداده ليكون مطعما, في البلاد التي لاتعود اليك ولست انت سوى مقيم فيها تكون الاولوية لابن البلد وليست لك وتلك مزية تجعل الحياة على قارعة طريق وعر ومتشابك, يشيد المطعم الذي لايبعد سوى مئة خطوة عن مطعم مدام ماليوري (هيلين ميرين) الذي مات زوجها وترملت لذا تجد ان جل وقتها هو اعداد الطعام السريع للزبائن, تجن مدام ماليوري وتحاول بشتى الطرق ان توقف هذا المشروع خاصة وهو لايبعد اكثر من مائة خطوة عن مطعمها, تحاول بشتى الوسائل ايقاف المشروع, عمدة المدينة العادل بين القانون, شراء كل مواد الطبخ من السوق وعرقلة مطبخ السيد كاظم, تستمر المناوشات والتوترات الى ان تاتي اللحظة التي تجعل منديل الانسانية يظهر بشكل جلي ببياضه الناصع, يقوم احد الطهاة بحرق المطعم الهندي مما اجج الروح الانسانية لدى مدام ماليوري فتقوم بطرد الطاهي, وبنوع من الكبرياء والغرور تذهب في يوم ماطر الى جدار المطعم الهندي المحترق وتقوم بنتظيفه بحجة ان الجدار هو ملك عام وليس خاصا, في هذه اللحظة بالذات يقوم السيد كاظم الذي يحمل مظلة يتقدم منها ويسلمها لها كي تتقي زخات المطر, هذه اللحظة بالذات قلبت موازين الفيلم وجعلته قطعة من حب وانسانية وحنان , لكن المكابرة تظل عند الغرب والعاطفة عند الشرق, يحاول حسن الذي احترقت يداه اثناء محاولة العائلة لاخماد الحريق ان يصنع طبقا خاصا لمدام ماليوري دلالة على حسن النية لكن ما ان تتذوقه حتى تذهب الى كيس القمامة وترميه تحت شك حسن من انها اعجبت بالطبق لكن المكابرة انهت الصحن بهذه الطريقة, بهدوء وروية يقودنا هالستروم الى الوفاق, كيف لا والانسان اخو الانسان, صديقه, من طينة واحدة, يصنع حسن الذي تطورت علاقته بماركريت الى حب نقي, تستدعيه مدام ماليوري اثناء اقامة مسابقة للحصول على اشارة ثانية في تاريخ مطعمها ليصنع لها طبقا يدخل في المسابقة وتدفعه الى العالم, الشرق لايقدر عادة ان يدفع ابناؤه الى العالم , يفوز المطعم باشارة ثانية, يؤجج هذا الفعل غيرة ماركريت فهي ايضا طباخة ماهرة , لكن حسن الان في طريقه الى العالم للحصول على الجائزة الثالثة التي لايمكن الحصول عليها الا في الحلم, يذهب حسن لكنه سرعان مايعود الى مكانه الذي بدا منه , هنا ابوه وماركريت ومدام ماليوري التي دفعته بحب الى العالم, جاء حسن ليحصل على الجائزة الثالثة من مكان محبته , مكان امه التي علمته سر التذوق سر المحبة والتالف, في المشهد الاخير الذي رسمه هالسروم في غاية الدقة والانتباه تتهشم فيه المئة خطوة ليجتمع الجميع في مطعم مدام ماليوري ماركريت وحسن, السيد كاظم الاب العنيد ومدام ماليوري نشات بينهما دغدغة حب كي تستمر الحياة ,هذا الجو العابق بالمحبة وتداخل الحضارات وتقارب روح الانسان العظيم يؤججه الموسيقار رحمن بموسيقى غاية في العذوبة والانسجام. رحمن فاز مرتين بجائزة الاوسكار ورشح لمرات خمس, قلوب العالم رحيمة وتتسع للمواهب الكبيرة والانجاز الحر,علينا ان نعرف ان الذين ساهموا في انتاج الفيلم هم اوبرا وينفري وستيفن سبيلبرغ وجوليت بليك, المنافسة كانت على اشدها بين اوم بوري الاب وهلين ميرين التي قضت وقتا طويلا في كيفية نطق اللغة الفرنسية, كان التنافس ممتعا وكبيرا فاز فيه الجميع .