المكارثية وإليا كازان 2-2
مقداد عبد الرضا /
شاعر يوناي مغمور يقول في قصيدة موجعة:
“كل يوم أجلس فيه من الصباح الى المساء أعد فيهما أصابعي فأتذكر سنيّ عمري, كل يوم أجلس فيه من الصباح الى المساء أعد فيهما أصابعي فأتذكر عدد أصدقائي, سياتي يوم أجلس فيه من الصباح الى المساء أعد فيهما أصابعي فلا أجد سوى أصابعي”. حقاً أنه لوجع كبير حينما يخبو ذلك الألق وتلك الأيام التي كنت فيها في الضوء ودفع بك الزمن الى العتمة, العتمة الأبدية, ذلك ماوصل اليه إيليا كازان, ومافائدة أن تظل أعماله حتى الزمن البعيد ويظل الاسم خالداً, عبث حقاً.
اختار كازان شجرة تنمو في بروكلن لأنها تتحدث عن شوارع نيويورك والطبقة العاملة, طوّح بالنص الأصلي وراح هو يكتب نصاً آخر مستلاً الفكرة فقط, هذه الطريقة سوف يتّبعها في أكثر أفلامه المقبلة, حين شوهد الفيلم عام 1954 أشاد به النقاد كثيرا, هناك بعض الأفلام التي اشترك فيها كازان ممثلاً ومخرجاً: (الكهف الكبير وفطيرة في السماء) 1934, (مدينة للغزو) 1941. يعتبر فيلم (الكيد المرتد) أول فيلم أكد حضوره مخرجاً متميزاً وانتبهت له هوليوود عام 1947, في هذا الفيلم حقق ما يسمى بالواقعية الأميركية الحديثة التي كانت بدايتها في التلفزيون حيث الدراما التي كانت تؤخذ من صلب المجتمع, واستطاع أن يقدم في هذا الفيلم مجموعة رائعة من فريق ستديو الممثل أمثال دانا اندروس, لي جي كوب, كارل مالدن, آرثر كيندي، ما جعل الناقد جيمس إيجي يشير الى الأداء الفذ الذي قدمته هذه المجموعة.
في العام 1945 قدم كازان واحداً من أفضل أفلامه: (اتفاق السادة)، الذي حقق نجاحاً باهراً ورشح لثماني جوائز أوسكار فاز في ثلاثة منها: أفضل فيلم وأفضل ممثلة مساعدة (سيلست هولم)، وحصل كازان على جائزة أفضل إخراج، ما دفع المنتج الكبير داريل زانوك أن يقترح عليه فيلماً يسير على نفس النهج. كان زانوك قد رشح جون فورد لهذا الفيلم لكنه اعتذر وادعى المرض، لذلك تجد أن زانوك قد توسل الى كازان أن ينفذ الفيلم, وافق كازان وجاء فيلم (نيكي) رائعاً صفق له الجمهور كثيراً وأشار إليه النقاد بالكثير من الإطراء في العام 1949.
جاء العام 1950 وجاءت معه فرصة أخرى كبيرة لكازان صنعت له مجداً ظل ملازماً له حتى الآن: فيلم (ذعر في الشوارع)، وألحقه بفيلم آخر اعتبر واحداً من أروع كلاسيكيات السينما الأميركية, إنه فيلم (عربة اسمها الرغبة) المأخوذ عن مسرحية كان قد كتبها تنيسي وليامز, في هذه المسرحية التي قدمت سابقاً على مسارح برودوي كانت الممثلة جيسيكا تاندي قد حصلت على لقب (بلانش دوبوا) وهو اسم بطلة المسرحية وظل ملاصقاً لها طيلة حياتها لأدائها الفذ, لكن فيفيان لي كانت آسرة حقاً في الفيلم ومعها مجموعة رائعة من الممثلين يقف في مقدمتهم مارلون براندو. حقق الفيلم جوائز عدة من مجموع ثلاث عشرة جائزة رشح لها: فيفيان لي أفضل ممثلة, كارل مالدن أفضل ممثل مساعد وكيم هنتر أفضل ممثلة مساعدة، إضافة الى جائزة أفضل إدارة فنية.
في العام 1952 قدم كازان رائعته (يحيا زاباتا), في هذا الفيلم حاول كازان إعادة الاعتبار لنفسه من قبل الشيوعين, لكنهم وصفوا الفيلم بأنه عن حياة قاطع طريق وليس ثائراً, كتب سيناريو الفيلم الروائي جون شتاينبك. في العام 1953 أنجز كازان فيلماً لم يحقق له النجاح كما كان يتوقع حيث فشل فشلاً ذريعاً, إنه فيلم (رجل في مأزق) حتى مع اشتراك واحد من أهم ممثلي ستديو الممثل، فردريك مارش، إلا أن ذلك لم يشفع له. في هذا الفيلم حاول كازان أن يمسك العصا من الوسط ويوازن بين وشايته لزملائه وبين ما وصل اليه ومحاولته إرضاء النظام لكن ذلك لم ينفع.
جاء العام 1954الذي استطاع فيه كازان أن ينهض من تلك الكبوة فقدم فيلماً رائعاً: (عند جبهة النهر)، وكانت البطولة لألمع نجوم ستديو الممثل يقف في المقدمة مارلون براندو، ولي جي كوب، وكارل مالدن، ورود شتايكر. لقد كانت منافسة كبيرة حقاً في الأداء استطاع رود شتايكر أن يخلخل أداء براندو ويتفوق على الجميع بأدائه الفذ. فاز الفيلم بثماني جوائز أوسكار من مجموع ثلاث عشرة جائزة.
اختار كازان في العام 1954 واحداً من أهم نجوم هوليوود آنذاك والذي اعتبر ظاهرة شباب متمرد وخارجاً عن المألوف حتى يومنا هذا.. إنه الممثل جيمس دين الذي اختاره لفيلم (شرقي عدن) المأخوذ عن رواية كان قد أنجزها جون شتاينبك. يقول كازان عن هذا الفيلم: “لقد وجدت نفسي فيه, كان جيمس دين هو أنا”, ثم جاء العمل مع واحدة من أجمل ممثلات هةليوود وأفضل ممثلات ستديو الممثل, إنها الأيقونة الرائعة كارول بيكر إذ قدمها مع كارل مالدن في فيلم (بيبي دول) الذي قدم فيه قراءة أخرى لمسرحية تنيسي وليامز والتي اعتبرها ضعيفة وتحتاج الى إعادة صياغة.
استمر كازان في اكتشافه للوجوه الجديدة وقدمها في أفلامه وأكثرهم كان يعمل معه في ستديو الممثل, منهم أندي كريفت وباتريشا نيل في فيلم (وجه في الزحام) 1957, ناتالي وود ووران بيتي في فيلم (روعة في العشب) 1960, لي ريمك في (النهر الهائج) 1969, لكن الفيلم الذي ظل أكثر قرباً له كان (أميركا أميركا). يقول “إنها من أكثر الصور التي ظلت عالقة في مخيلتي منذ أن كنت في الخامسة من عمري, كنت أود دائماً أن أحكي كيف جاء أهلي من الأناضول الى هنا, تدريجياً تحول الموضوع لي أنا شخصياً, كان الفيلم قريباً مني جداً في أشياء كثيرة, إنه من صميم حياتي وأول فيلم أكتبه لنفسي، وكم كانت دهشتي كبيرة حينما وجدت أن أصحابي احتفوا به كثيراً”.
منذ العام 1970 لم يقدم كازان أي شيء يذكر, ففي نفس العام أنجز فيلم (الزائرون) ثم أعقبه في العام 1974 بفيلم (المقاتلون) 1969 وقدم فيلماً فشل فشلاً كبيراً يحكي حياة الملياردير أوناسيس كانت بطولته من نصيب أنتوني كوين. منذ العام 1981 وحتى العام 1989 قدم كازان أفلاماً تعتبر وثائقية وبمثابة تحية لمجموعة ستديو الممثل وشيئاً آخر يعتبر مكملاً لفيلم (أميركا أميركا) هو (الوقوف في الصحراء), 50 عاما من العنف, وأهلا ستديو الممثل, لي ستراسبورغ وستديو الممثل وأخيراً اشترك كممثل في فيلم يحمل عنوان (عملية).
“والآن انا لم اعد قادراً على قراءة أى شيء, لم أعد ملائماً لهذا الزمن, أنا شخص يتحرك كثيراً, أفكر بالحياة, حينما أكون نائماً أحلم بأنني عدت الى العمل في السينما مرة اخرى”.. لن يحدث ذلك، فلقد دخل كازان وعاء العزلة الأبدي.