“المكتبة” و”اللغة العربية” مكتبتان بروح واحدة

691

آية منصور – تصوير: يوسف مهدي /

جمعهما نضال واحد، رسما خط مبدئهما مع الحياة بطبشور واحد، لم يكترثا لملاحقات السلطات وعصا مطارداتها لكل من يحاول نشر الفكر الحر آنذاك، بحثاً عن مختلف الكتب الممنوعة والمحظورة ودأبا يبيعانها، ونجيا من الموت مراراً وتكراراً، ليقوما اليوم بتأسيس مكتبات عدة تنهض بالفكر والحياة، واللغة والفلسفة: مكتبة المكتبة، ومكتبة اللغة العربية، لأحمد الطويل وأحمد عبد الحسين، وقصة من النضال حباً بالكتب.
الطالب الذي يستبدل الملابس بالكتب
يبدأ السيد أحمد فلسفة، أو أحمد الطويل، كما يُلقّب في شارع المتنبي، الذي يعرفه الناس بصفته أحد مرشدي هذا الشارع لقدم وجوده فيه، بالإشارة إلى بدايات نشاطه داخل عالم الكتب والكتابة، مذ كان طالباً في الكوت، حين أعطاه والده المال ليشتري ثياباً، لكن أحمداً اشترى بدلاً عنها بعض الكتب، حتى صار ولعه بالكتب أشبه بمهنة، إذ صار يتلقى طلبات شراء من الأصدقاء والجيران وحتى من أساتذته في المحافظة.
– بدأت بالتوسع في هذه المهنة عام 1989 ومنها تعرفت على الدكتور عبد الحسين الساعدي (أبو زهراء)، وسلكنا هذا الدرب الطويل معاً، كنا نعاني من صعوبة نشر الكتاب المختلف وثقافة الاختلاف، كنا محاصرين.
تهريب الكتب.. كما المخدرات!
كانا يمارسان مهنة بيع الكتب بالخفاء، وكأنهما يهرّبان المخدرات، حسب وصفهما، لا الترويج للثقافة والأدب، لكنه مرض الكتب، مرض حميد، كما يصفه السيد عبد الحسين إذ يخبرنا:
– إننا فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى، فقد كان حسّنا الوطني عالياً، ومترابطاً ترابطاً كبيراً مع حسِّنا السياسي والديني، لنعمل من أجل هذين العنصرين، حاملين همومنا وأحلامنا بوطن حر وحياة كريمة، ما دفعنا لسلوك هذا الطريق الشاق. لم تكن لدينا مكتبة، ومجرد التفكير بتأسيس مكتبة بما تحمله أفكارنا كان يشبه التوقيع على عقوبة الإعدام، لذا كنا نوفرها بسرّية تامة.
يذكر الدكتور عبد الحسين أن لهما زبائن كثيرين، من أولئك الذين نثق بهم ويبادلوننا ثقة كبيرة أيضاً، نتيجة التعامل المستمر معهم، ويضيف:
– كنا نتنقل بين الناس، ندخل بكتبنا من مكان ونخرج من مكان آخر تماماً عند تسليمنا العنوانات.
كتاب يعدمك!
استمرت محاولاتهما ونضالهما مدة طويلة، في إحدى المرات تعرض السيد أحمد للسجن ستة أشهر مع إصدار حكم بالإعدام عليه، لترويجه ونسخه كتاب “صدام الخارج من تحت الرماد”.
– قلعوا أظافري، وجرى تعذيبي بجلد ظهري أشهراً طوال، ثم خرجت لعدم كفاية الأدلة، هكذا فعل بي الكتاب، ومع هذا سأستمر بالترويج للكتب دائماً.
بعد سنوات من الحصار الفكري، استطاعا عام 2003 فتح مكتبتين، هما مكتبة اللغة العربية، ومكتبة المكتبة، معنيتين باللغة العربية والفلسفة حصراً، إذ تجمع المكتبتان عشرات الآلاف من كتب اللغة العربية بكل صنوفها، فضلاً عن الفلسفة باتجاهاتها كافة. أي أن المكتبتين تُعنيان بتخصص يعد نادراً، بل لعله الوحيد في شارع المتنبي.
يخبرنا الدكتور عبد الحسين قائلاً:
– فضلاً عن المكتبتين، لدينا مكتبات أخر، لكن لكثرة أعداد العنوانات، أصبحت أشبه بمخازن نخرج منها كل ما نريد وقت الحاجة، لأننا طوال أكثر من 30 سنة جمعنا خلالها عشرات الآلاف من الكتب.
الكتب النادرة للاستعارة
يذكر كذلك أن المكتبتين تحويان عشرات الكتب النادرة، التي تعود بإصدارها إلى مئات السنين، لكنها غير متاحة للبيع بسبب ندرتها، لأن غايتهما الأساسية هي إضافة المزيد من آفاق العلم والمعرفة ما يجعلهما دائماً يسلمان هذه الكتب النادرة لمن يحتاجها. يضيف السيد أحمد:
– نعير هذه الكتب عادة إلى طلبة الدكتوراه أو أصحاب البحوث الخاصة، بعضهم لم يرجع بالنسخ هذه حتى اللحظة، لكن غايتنا ليست المنفعة المادية وإنما العلمية، ما يجعلنا نهِب المطبوعات النادرة دونما خشية.
الطلبة أعظم الزبائن
يؤكد الدكتور عبد الحسين أن أغلب رواد المكتبتين ومتابعيهما هم من الطلبة وأساتذة الجامعات المتخصصين باللغة العربية أو الفلسفة، وليس للمكتبة بالعادة أتباع متنوعون، لندرة وجود صنوف الكتب الأخرى كالرواية أو الشعر وغيرهما، لكن أحمد الطويل يحاول إضافة عنوانات جديدة إلى مكتبته من أجل التنوع المعرفي.
شارع القرطاسية، والعلم
يشكو السيد عبد الحسين، ويؤيده أحمد الطويل، من انزواء أكثر من 10 مكتبات كبيرة ومهمة، نتيجة إهمال شارع المتنبي وازدهار تجارة بيع القرطاسية والمستلزمات المدرسية، التي جعلت رواج الكتاب ينحسر تدريجياً يوماً بعد يوم، حسب قولهما ورؤيتهما. إذ يؤكد السيد أحمد:
– استحوذت القرطاسية على هوية الشارع، لأن الأرباح هائلة مقارنة بأرباح الكتاب، ونحن نرغب بعودة هوية هذا الشارع إلى سيرتها الأولى، ولا نعلم هل سيحدث ذلك أم لا، ونخشى أن سيندثر الشارع بعد سنوات ويصبح مكاناً تجارياً صرفاً.
لكن رغم هذا، يرى السيد عبد الحسين أنه مهما جرى من تغييرات في وجه الشارع، إلا أن التزامهما بتقديم العلم والمعرفة سيحافظ على هذا المكان غير مباليين بالفوائد المالية قدر عنايتهما بالخدمات الثقافية التي يقدمانها والفوائد المعرفية التي تتحقق.