الوجه الآخر للفلاسفة.. ما وراء قناع الحكمة

478

دعد ديب /

لا شك في أن لكل فيلسوف ومفكر عالمه الخاص، ونمطاً مختلفاً من الحياة قد يبدو مفارقاً لما يعتبره، أو يحسبه سائر الناس، أسلوب عيش طبيعي، الأمر الناجم عن استغراقه في المماحكات العقلية والقضايا الفكرية المؤرقة. من هذا الجانب نتطرق للتساؤل: هل هذه الأرستقراطية الفكرية تعطي للفيلسوف حقوقاً فوق بشرية، وهل تعفيه من الالتزام بمنظومة الأخلاق المتعارف عليها، رغم اشتغاله على معانيها، وهل الأخلاق نسبية تختلف من عصر إلى آخر، أم أن الفيلسوف لا يدرك معنى الشيء إلا حين يعيشه، والتنظير لها نوع من الرياضة العقلية، وهل الإنجاز العقلي لهم يقود بالضرورة إلى حياة عقلانية؟؟
فهاهو الفيلسوف الإنكليزي جون لوك، بكل ليبراليته ووجود رسالتين له في التسامح، وكتاب عن الحكم المدني، وأكثر من بحث في العقل الإنساني، وله تأثير بالغ في النظرية الحديثة للديمقراطية في كل من إنكلترا وأميركا، ومع ذلك كان من أبرز المستثمرين في تجارة العبيد في الشركة الأفريقية الملكية، إذ غابت العبودية، وبكل ما فيها من امتهان إنساني، عن كتابات العديد من الفلاسفة.

المتكلف المتصنع
يقول جان جاك روسو، وهو المنظر الأول للتيارات الثورية الرومانسية: “ولد الإنسان حراً، وهو في كل مكان مكبل بالأغلال.”
ويعتبر روسو أن الإنسان فاضل بطبيعته، وفق تعبيره، لكن البيئة الخاطئة من حوله تدفعه لارتكاب الخطأ، فهو ميال للحياة الفطرية الطبيعية، وأن النازع الطبيعي له الأفضلية على الدوام من المتكلّف المتصنّع. وبرغم ذلك، فإن روسو، الثوري المحب للطبيعة، كانت حياته بعيدة عن الشكل الطبيعي والفطري، ما أقر به بنفسه في كتابه “اعترافات”، كسيطرة المازوشية على مزاجه وحياته الخاصة، وأيضاً بقي على اعتقاده بوجود النساء في حالة تبعية سياسية واجتماعية، إذ أنه رفض المساواة بشكل صريح وعاش على حساب الآخرين من الأغنياء وأصحاب النفوذ. ومع أنه تحدث بإسهاب عن أهمية المحيط الاجتماعي في التنشئة السوية للأفراد، فإنه تخلى عن أبنائه الخمسة ودفع بهم إلى دور الأيتام، ما أدى إلى موتهم المبكر إثر ذلك.
فريدريك نيتشه
من أقواله: “الحياة ينبوع البهجة، لكن حيث يشرب الرعاع تكون جميع الآبار مسمومة.” لقد تأثر الكثيرون بأفكار صاحب فلسفة القوة والإنسان السوبرمان، ووقع غالبيتهم تحت سطوة كتابه “هكذا تكلم زرادشت”، وكتابيه “ماوراء الخير والشر” – و”جينالوجيا الأخلاق”، وقد كان لأفكاره في أطروحة موت الإله وقعٌ مدوٍّ في محيطه، وبخاصة نفوره من الأخلاقيات المسيحية عند مقارنته بين البوذية والمسيحية، فالبوذية لم تعد الإنسان بشيء، لكنها حافظت على الوعود، بينما وعدت المسيحية بالكثير ولم تنفذ أي وعد.
لم تعرف لنيتشه أية علاقات غرامية، باستثناء عشقه غير المكتمل لـ (لو سالومي)، ولولا إصابته بمرض السفلس في آخر أيامه لقيل إنه مات بتولاً.
مارتن هيدغر
تقوم فلسفة هيدغر على أن الشيء الجوهري في الكينونة هو وجودها ذاته، وعلى كشف معنى الوجود، وهو من الفلاسفة المثيرين للجدل بإفراده مصطلح (الديزاين) الذي يعني (وجودي في العالم وملكيته العائدة لي)، في كتابه (الكينونة والزمان).
ارتبطت أصول هيدغر بالريف، لذا كان يحمل في أعماقه سخرية واستهزاء بالحضارة المدنية، ورغم ذلك قدم للفكر الحديث مساهمات عدة، كما أن تأثيره كبير على مجموعة من الفلاسفة من حوله، مثل: حنا أرندت-هانس جوناس – هربرت ماركوس –كارل لويز، ولكل منهم حضور بالغ في الحياة الفكرية في ألمانيا آنذاك.
يؤخذ على هيدغر مساندته لحركة سياسية متطرفة، هي النازية، وإعطائها شرعية فلسفية رأى الكثيرون أنها مدمرة للفلسفة والأخلاق، ولم يعتذر عن ارتباطه بالحكم النازي، ما يدفع المرء للسؤال والحيرة: كيف يمكن لهذا المفكر العملاق أن يؤيد النازية ويقوم بتأييد أكبر قاتل ومعاد للفكر الإنساني، كما يحكى عنه سلوكه المعادي في تمييزه ضد الطلاب اليهود في الجامعة.
جان بول سارتر
تميز بإنتاجه الأدبي الغزير، من مسرح ورواية، وكان خطيباً مفوهاً وناشطاً سياسياً، أصدر مجلة (الأزمنة الحديثة)، وعلى يديه تألقت الوجودية، ومن أهم تنظيراتها حق الفرد بالإبداع بكل حرية، واهتمامه الكبير بالتلاؤم بين الفكر الغربي والماركسية، كما تميز بامتلاكه شخصية جذابة وغريبة، فهي تجذب وتنفر الآخرين بسبب من تنوع معارفه الفكرية بين الفلسفة والآداب والمسرح، ما خلق له مريدين من كل التيارات. من أهم أقواله: (الجحيم هو الآخرون)، وانتقاده الأساسي تجسد بأن لا نسمح أن نكون وفق ما يريده الآخرون وإنما على ما نريده نحن.
ادعى سارتر أن موت والده حرره من وجود سلطة عليا في حياته، لذا تحدث عن عدم وجود (أنا) عليا لديه، ما يعكس رغبته في الظهور بشكل منفلت، لكن رغبته الدفينة بالعقوبة الدامية للطغاة، وكرهه لزوج أمه، كل ذلك يؤكد عدم مصداقيته في هذا الشأن.
وقد هاجم سارتر كل أشكال السلطة باسم حرية الفرد، ومع ذلك استخدم سلطته الفكرية في السيطرة على من حوله لرغبة عميقة كامنة في داخله لفرط حاجته أن يكون محبوباً بشكل دائم، الأمر الذي دفعه إلى علاقات غرامية وجنسية بشكل كبير، لكن مع محافظته على علاقته بسيمون دي بوفوار، وكلاهما يحوز على علاقات جانبية في ذات الوقت، ما يوحي بعلاقات فيها استغلال لمشاعر وأجساد نساء، ما يناقض فكرة الحرية التي يدعو إليها.وقد اعتبر سارتر الأنثى هي الوجود بحد ذاته، أما الذكر فهو الوجود لأجل ذاته، مبدياً فكراً ذكورياً، فعلاقة الجنس ليست تبادلية عنده، فهي إما أن تكون سادية أو مازوشية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن مناصرته للاتحاد السوفيتي أيام ستالين توحي بولعه بالسلطة القادرة، الأمر الذي يناقض فلسفته بالحرية الشخصية والوجودية، الرأي الذي برره بحجج مختلفة فيما بعد، ومع ذلك، وهذه تحفظ له، فإنه عارض الوجود الاستعماري لفرنسا في الجزائر، كما رفض جائزة نوبل، وشجب غزو الاتحاد السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا في ربيع براغ.
كارل ماركس
صاحب المادية الديالكتيكية والتاريخية، ومنظِّر الشيوعية الأول، الذي يعتبر واحداً من أكثر المؤثرين في العالم بتنظيراته التي أوجدت لها مريدين وأنصاراً وتشكيلات سياسية في غرب الأرض ومشرقها. صاغ، ورفيقه فريدريك أنجلز، البيان الشيوعي. ويعد كتابه (رأس المال) إنجيلًا للماركسيين في أنحاء المعمورة، ومع ذلك ثمة سرّ برز إلى الوجود بعد موته، وهو وجود ابن له من علاقة جانبية سرية، الحقيقة التي اعترف بها أنجلز لابنته (ابنة ماركس) اليانور، وهو على فراش الموت، كما يحكى عنه استغلاله المادي لرفيق دربه أنجلز، إذ كان يعيش على حسابه بشكل دائم.
يقول الفيلسوف الفرنسي لوك بيري: “الثقافة لا تمنع أحداً من أن يكون سافلاً، فقد كشفت بعض ممارسات المثقفين عن شخصيات مريضة ونوازع دنيئة، ما يدعو للقول إن الفلاسفة خلقوا للفلسفة، أما في ميدان العلاقات والسياسة فهم فاشلون بامتياز.”
لذا نلاحظ من سيرة وحياة بعض الفلاسفة الكثير من التناقضات التي يعيشونها، وما ذلك إلا نتيجة للمفاهيم الملتبسة والمتغيرة تبعاً لزمانهم وزماننا، ولاسيما في ما يتعلق منها بشؤونهم الشخصية، فماهو غير أخلاقي في زمن يصبح عادياً في زمن آخر، فوجود حياة جانبية لهم على صعيد المثال، إلى جانب مؤسسة الزواج التقليدية، قد لا يكون له ذات الصدى في عصرنا الحالي، وهو رد فعل طبيعي على مجتمع يحاصر الفرد بتركيبته الأخلاقية والاجتماعية.