انهيار اليوتوبيات الطوائف والقبائل بدل الأمة والطبقات

1٬098

فالح عبد الجبار/

يوم اجتاحت الجيوش الاميركية – البريطانية العراق في آذار 2003، انهار النظام السياسي التوتاليتاري خلال ثلاثة أسابيع، مخلّفاً فراغاً مريعاً، ومجتمعاً ممزقاً.

خطط الغزاة، قبل الحرب، تختصر بعبارة واحدة: إقامة نظام ديمقراطي قائم على اقتصاد السوق، وهو الصيغة النظرية الأميركية لمفهوم الديمقراطية، المستمد من تجربتها في اليابان والمانيا النازية بعد عام 1945

وتحددت خطة حكم العراق على النحو التالي:

1-إنشاء حكم عسكري مباشر 2- الانتقال إلى ادارة مدنية بقيادة “التحالف”، اي الولايات المتحدة 3- الانتقال إلى ادارة مدنية عراقية، 4- تأسيس حكومة انتقالية. كل ذلك خلال فترة تمتد من 4 إلى 5 سنوات.
وأنشئت سلطة التحالف المؤقتة CPA في الاول من حزيران، اعتماداً على قرار مجلس الامن رقم 1483، في 22 أيار 2003. ودشن العراق بذلك الحكم الأميركي المباشر، الذي أسهم في تأجيج خطوط الانقسام، المحتدمة أصلاً. لم تخترع سلطات الاحتلال هذه الخطوط، لكنها أسهمت في توفير شروط أنسب لتفاقمها.

خلافاً للبريطانيين، انطلق الأميركان في عملية تفكيك شامل لما بقي من أجهزة الدولة، وبالذات قرار حل الجيش (بدل إصلاحه مثلاً)، فنشأ فراغ أمني- إداري، انطلقت فيه كل القوى الاجتماعية- السياسية بفلتان جامح. وبينما أقام البريطانيون عام 1921 سلطة الدولة الجديدة على أساس تحالف سني- شيعي بمظلة وطنية عراقية، مع تفاهم جانبي كردي، أقام الأميركان الدولة الجديدة على أساس تحالف شيعي- كردي بمظلة لامركزية- فيدرالية، وحاولوا استكمال القاعدة المختلة هذه بإنشاء تفاهم جانبي سنّي، لتجاوز الاختلال في التمثيل.

ثلاثة تيارات

واجه الأميركان ثلاثة تيارات قوية: الوطنية العراقية (على تصدعها)، النزعة الاسلامية (المنقسمة مذهبياً)، والنزعة القبلية، في ظرف جديد كلياً: نشوء سياسة الهوية identity politic. سياسة الهوية مَعلَم جديد، نشأ عن انهيار الايديولوجيات الكبرى، معلم بات حاسماً في تحفيز وصياغة، وتوحيد، او تفكيك الكتل السياسية القائمة على الجماعات الجزئية، سواء أكانت إثنية (كرد، تركمان، عرب)، أم مذهبية (شيعة، سنّة).

وابتغاء فهم الصيغة العراقية من سياسة الهوية identity politics، يمكن تحليلها تحليلاً مقارناً بصيغ اخرى من سياسة الهوية الناشئة في أماكن أخرى. وعلى سبيل المثال، شهد الاتحاد السوفييتي السابق ويوغسلافيا السابقة، (قبل التفكك)، أزمة أدت إلى انهيار الايديولوجيات الاشتراكية والأممية الرسمية، فاستعيض عن هذين بتحفيز النزعة القومية، التي وسمت الصراع على السلطة، ودفعته باتجاه صراع بين الإثنيات، بمجرد انهيار او ضعف السلطة المركزية وتفكك اقتصادها المركز. بالمقابل ادى انهيار النزعة القومية- الاشتراكية للبعث إلى مسار مغاير. فعلى امتداد عقد التسعينات وصولا إلى عام 2003، عمدت مؤسسات الدولة شبه المفككة والموهنة إلى تشجيع وإحياء المؤسسات القبلية، واستخدام المؤسسات والتيارات الدينية (الحملة الإيمانية): دعم مرجعية صادق الصدر- ثم اغتياله- تشجيع الجماعات السلفية السنية، فرض الحجاب، منع الاختلاط، الخ) إلا أن المؤسسات غير الرسمية للقبيلة والدين (المذهب)، اكتسبت حياة مستقلة على امتداد الجزء العربي من العراق وما أن انهارت السلطة المركزية كلياً بعد الغزو، وتفكك الاقتصاد الأوامري- الريعي المركزي، حتى برزت القوى والتيارات الدينية، والقوى القبلية إلى المقدمة.

أما في المنطقة الكردية (المستقلة عملياً منذ1991) فإن سياسة الهوية – الإثنية الكردية، القائمة منذ اربعينات العشرين، قد حفزت الجماعات الاثنية الأخرى في هذه المنطقة على تبني سياسة الهوية الخاصة بها: الآشوريون-الكلدان، والتركمان.

هكذا باتت الهوية الشيعية، والكردية، والآشورية، والتركمانية قاعدة للتعبئة والفعل الجمعي، مغطية على التشققات والانقسامات الاجتماعية- الثقافية وسط هذه الجماعات.

الصعود السياسي للهوية الشيعية تحول إلى ظاهرة جماهيرية هائلة إثر عودة الأحزاب الإسلامية الشيعية من المنفى.

هويات مذهبية

هذه الظاهرة حفزت القوى الاسلامية السنيّة، على تأسيس هوية سنيّة سرعان ما اجتذبت قطاعات من البعث المهزوم، وأوساطاً اجتماعية أوسع، وجدت فيها ملاذاً ودريئة حماية. وبينما كانت الهوية الشيعية تعتمد على وفرة من الرموز التاريخية، والطقوس الشعبية، كما تعتمد على مؤسسة مركزية موحدة (النجف ومرجعيتها السيد السيستاني)، كانت الهوية السنية تفتقر إلى هذا الغنى في الرموز والطقوس، او الوحدة في المؤسسات. وحسب اهم دراسة عن الطائفية في العراق فإن “سقوط البعث لم يطلق شرارة أحقاد قديمة، مزمنة، ولا تسبب باستيراد خطاب طائفي غريب إلى العراق، بالأحرى ثمة مزيج من العوامل نشأت قبل كما بعد عراق 2003، وأسهمت في استثارة هوية طائفية، واكسابها قدرة سياسية وبروزاً محتدماً.”

ما حصل بعد 2003 هو انتشار تسييس الهويات المذهبية على نطاق جماهيري، بفعل انفتاح المجال العام نتيجة سقوط الدولة. وما حصل أيضاً بعد 2003، هو الانتقال من التسييس إلى العسكرة، في ظروف احتلال، اختلطت فيه وتمازجت ميول معارضة الاحتلال العسكري مع ميول التنافس والصراع بين الجماعات لجهة السيطرة على عتلات السلطة والموارد المادية والرمزية المرتبطة بها. وبات توكيد الهوية المذهبية حافزاً لتوكيد هوية سنيّة معاكسة، مثلما باتت الهجمات المسلحة على الرموز والمناطق الشيعية محفزاً لتوكيد الهوية الشيعية. ما من فترة كهذه تعرضت فيها المساجد والمراقد إلى النسف والتدمير.

سقوط الدولة (حل مؤسسات العنف الرسمي أساساً) أفضى إلى شيوع الفوضى، والخوف، وسط النخب كما وسط العامة، وهما أفضل أساس للبحث عن نشدان الأمان في دفء الجماعات، أياً كانت طبيعة هذه الأخيرة، أسرة ممتدة، قبيلة او فخذ منها، حي سكني، عصبوية مدينة، او تلاحم طائفة، وهلمجرا. ويشتد هذا الميل في ظروف تمزق او ضعف او انهيار الروابط المدنية.

هذا الصراع القاعدي، طلباً للحماية والأمان، أكسب الهويات الجزئية زخماً هائلاً، تزايد حين ارتبط بصراع النخب في القمة على السلطة والموارد، وذلك لحظة شروع سلطة التحالف الموقتة CPA بقيادة بريمر، بتكوين الدولة الجديدة، وهي حسب المقاربة المعتمدة في هذه الورقة، متداخلة مع عملية بناء الأمة تداخلاً مكيناً، من شأنه ان يدعم او يقوض هذه الاخيرة.

تمثيل الطوائف

سارع القادة السياسيون – وبخاصة القادمون من المهاجر- إلى صياغة وتأسيس التعبير السياسي عن الكتل الإثنية والطائفية، لزجّها في الصراع على حصص التمثيل في مجلس الحكم (تموز 2003- حزيران 2004)، او في لجنة صياغة القانون الاداري الانتقالي (آذار 2004)، او في تشكيلة مجلس الوزراء الانتقالي (إياد علاوي- حزيران 2004)، وهو نسخة مكررة عن مجلس الحكم، حيث جرى تقسيم الحصص وفقاً للنسب المئوية الافتراضية للشيعة والكرد والسنّة والمسيحيين. وعوضاً ، مثلا، عن تمثيل المحافظات كلها حسب وزنها السكاني، لإكساب هذا التمثيل الفوقي مظهر كيان وطني شامل، انحصر التمثيل في توزيع حصص فئوية، اعطت لبعض المدن الدينية، نصيباً متعاظماً وكان مجلس الحكم اصلاً بلا صلاحيات تذكر، إلا أن لطريقة التمثيل فيه معنى رمزياً عميقاً، اذ تركزت على الانتماء الطائفي، والاثني، والديني، وتمثيل أهل الداخل وأهل الشتات، دون اعتبار لتمثيل المحافظات. وجاء تركيب المجلس من حيث الإثنيات: 72% للعرب، 20% للكرد و4% للتركمان، 4% للآشوريون. اما تركيبة المجلس طائفياً فكانت كما يلي:

شيعة 52%، سنّة (عرب وكرد وتركمان) 44%. هذه التركيبة عززت الانتماءات دون الوطنية، وعمقت خطوط الانقسام الطائفي اكثر.
وبات شعار كتلة الكرد الأرأس: الفيدرالية، وشعار كتلة الاسلاميين الشيعة : الديمقراطية= حكم الاكثرية=نحن، وشعار الكتل السنية: الوطنية والعودة.

وتجلت الهويات المذهبية في الكتل الانتحابية عام 2005، سواء في الانتخابات التأسيسية في كانون الثاني 2005 (مجلس أمة لكتابة الدستور)، أم الانتخابات العامة، (لاختيار المجلس الوطني= البرلمان) في كانون الاول 2005.

الكتلة الشيعية تأسست على يد السيد السيستاني باسم التحالف الوطني العراقي، وشاركت ككتلة موحدة في الانتخابات التأسيسية والبرلمانية، والكتلة الكردية دخلت موحدة في الانتخابات باسم التحالف الكردستاني، اما جماعات الكتل السنية فقد قاطعت الاولى، وشاركت في الثانية، باسم التوافق. أما الكتلة الوسطية، بزعامة إياد علاوي، فهي وحدها الكتلة العابرة للانقسام المذهبي.

صراع داخل الهوية

سياسة الهوية (إثنية او دينية او مذهبية) هي أداة تعبئة جماعية، لضمان اكبر نصيب ممكن في السلطة والموارد (في دولة ريعية مالكة لجل الثروة الاجتماعية). لكن تحقيق هدف الوصول إلى السلطة والموارد، يفتح الباب لعملية معاكسة، هي إذكاء الصراع داخل جماعة الهوية الواحدة، المتخيلة سياسياً، وهو صراع على تمثيل هذه الجماعة وزعامتها. هنا تبدأ الانقسامات الايديولوجية، والاجتماعية، والانقسامات القبلية، والأسرية، بل عصبيات المدن، والطبقات، تفعل فعلها داخل كل جماعة. الواقع أن الدراسات عن الطائفية او سياسة الهوية تركز على جانب التوحيد الجمعي، وتغفل جانب الانقسام الفئوي داخل الجماعة. فاستخدام الخطاب الطائفي كفضاء للفعل الجمعي الموحد يفترض سلفاً أن الفعل الجمعي بحاجة إلى التوحيد. من هنا وجوب المعاينة الثنائية لخطاب الهوية.

ونلاحظ مثلا أن الكتلة الإسلامية الشيعية التي دخلت بجبهة موحدة في انتخابات عام 2005، انقسمت إلى كتلتين في انتخابات عام 2010، وإلى اربع كتل، وثماني مجاميع صغيرة في انتخابات 2014. والكتلة الكردية الموحدة عام 2005، انقسمت إلى 3 كتل عام 2010، وإلى 5 كتل عام 2014.

اما الجبهة السنية التي دخلت بكتلة واحدة عام 2005 (التوافق)، واتحدت مع التيار الوسطي عام 2010، فقد تمزقت إلى 4 كتل واكثر من عشر مجموعات صغيرة عام 2014.

التنافس والتزاحم على السلطة والموارد يطغيان على الوحدة والتماسك، لحظة الانتقال من اللاسلطة إلى السلطة، مثلما ان الوحدة او التماسك تطغى على التنافس لحظات الخطر الخارجي.

ورغم ان مشاعر العداء الطائفي تظل طاغية، على المستوى القاعدي، كما على مستوى النخب، فإن الفضاء الثقافي للخطاب الطائفي يفقد الكثير من قدرته التعبوية او التوحيدية. ولعل إزاحة ابراهيم الجعفري عن رئاسة الوزراء عام 2006، ومنع نوري المالكي من التجديد بولاية ثالثة، خير دليل على وجود هذا الميل كما الميل المعاكس.

الخطاب الطائفي خطاب توحيد وفضاء انقسام. وهو يشتد كقوة توحيد بوجود خطر حقيقي او متخيل على الجماعة لجهة التمثيل السياسي، او المشاركة في الموارد الاقتصادية أو الثقافية، المادية والرمزية. من هنا سعي نوري المالكي إلى اختلاق وتضخيم “خطر” سنّي على الجماعة خلال فترة حكمه. وبخاصة خلال أزمة الاحتجاجات في الأنبار(2013)، أو أزمة سقوط الموصل وجوارها بيد داعش(2014). رغم ذلك فضاء الانقسام لم يكن غائباً فالقدرة الجمعية لهذا الخطاب عينه تتدنى لحظة التنافس على الزعامة داخل الجماعة، فتنطلق كل الانقسامات الحديثة، والتقليدية، لتشطر هذا الفضاء الجامع.

هوية ثقافية

الهويات المذهبية- الدينية لا يمكن ان تزول، فهي هويات ثقافية، ذات عمق تاريخي، وهي محميّة بمؤسسات ومنظومة طقوس وتقاليد، تنتجها وتعيد انتاجها دوماً. لكن ما يمكن ان يتغير هو حدود وطابع تسييس هذه الهويات، او حدود عسكرة هذه الهويات عينها. ويمكن لحدود العسكرة والتسييس ان تتقلص بفعل اتساع فضاء ثقافي سياسي وسطي. هناك تيارات وسطية عابرة للطوائف والإثنيات، وهي ان كانت ضعيفة، فإنها ليست خرساء.

ثمة بذور لتبلور مثل هكذا تيار، وهي وجود تعاون ثلاثي كردي- عربي، شيعي- سنّي، يتمثل بلقاء كتلة الصدر (الأحرار) وكتلة علاوي (الوطنية) وكتلة البارزاني، التي تشكلت خلال محاولة سحب الثقة من رئيس الوزراء السابق نوري المالكي (صيف 2012)، واستمرت قبل وخلال وبعد الانتخابات البرلمانية عام 2014.

ومن جديد فإن فتح النظام السياسي على المشاركة المتوازنة، هو الباب الأرأس للمشاركة السياسية والمشاركة الاقتصادية بسبب الطابع الريعي النفطي للاقتصاد الذي تهيمن عليه الدولة.

فبدون مشاركة السياسة، لا وجود لمشاركة إدارية (في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية)، وبدون مشاركة ادارية لا وجود لمشاركة اقتصادية، وبدون مشاركة اقتصادية لا وجود لمشاركة ثقافية. وما دامت سياسة الهوية قائمة، فإن أي اختلال في المشاركة سيكتسب طابعاً طائفياً، يعيد الصراع إلى نقطة البداية.