بدو القوارب وبدو المستنقعات
باسم عبد الحميد حمودي /
البداوة ليست إطاراً شعبياً واحداً في كل أرض ومكان, فالبدوي، بمفهومه الحضاري، هو من يعيش مستقلاً في أرضه المترامية، أو مياهه الوفيرة، دون احتكاك كبير بالمجتمعات الحضرية المتقاربة معه إلا بما يتيح المحافظة على استقلاله.
قديماً كان بدو (الكاشكاي) الذين يعشقون الحصان ويستخدمونه في تنقلاتهم المستمرة قد تميزوا عن سواهم بالقدرة على التحرك السريع في الفيافي الإيرانية وبالقدرة على الاستقرار المؤقت أيضاً.
في الوقت ذاته، وفي أمكنة أخرى يعيش البدو المتفردون في مناطق أخرى من العالم على وفق أساليب عيش متباينة، ومن ذلك بدو (الباجاو)، والباجاو هم سكان القوارب المتحركة.
يعيش شعب الباجاو في منطقة سواحل جنوب شرقي آسيا في أرخبيل سولو التابع للفليبين وإندونيسيا وماليزيا, وهم شعب يعيش في قوارب خشبية بين سواحل هذا الدول أو يبنون بيوتهم وسط الماء وقرب الساحل من الأعمدة والأخشاب ولا يصلون اليابسة إلا لبيع منتوجاتهم من الأسماك البحرية ومقايضتها بالمواد الأخرى الضرورية.
في عام 2010 شكل شعب الباجاو أكبر الأعراق في إقليم (صباح) التابع لماليزيا, لكنهم لا يعملون في السياسة وليست لديهم اهتمامات عرقية أو طائفية رغم أن الكثير منهم مسلمون –على طريقتهم الخاصة-وفيهم كاثوليك وبروتسانت, على طريقتهم الخاصة أيضاً, إذ لا توجد حسينيات ولا مساجد ولا كنائس وسط البحر, فهم يتعبدون كما يريدون!
اكتشفهم الرحّالة الإيطالي (أنطونيو بيجافيتا) عام 1521 خلال رحلاته البحرية، وذكر في تقاريره أيامها أنهم اشتهروا بالقرصنة وتجارة العبيد, والظاهر أن وصول المستعمرين الهولنديين والإنكليز والفرنسيين قد أوقف لديهم هذه الممارسات, إضافة إلى انتشار الأديان السماوية لديهم بفعل وصول التجار الجوالين إلى منطقتهم وتأثير هؤلاء عليهم, ما دفع إيمانهم السابق بالشجر والأرواح جانباً.
تقول أسطورة شعب الباجاو إنهم ينتمون إلى شعب كان قد سكن اليابسة، وكان يحكمهم ملك ضاعت ابنته في البحر, وأمر شعبه بالبحث عنها, فنزل الشعب كله إلى البحر للبحث عن ابنة الملك الضائعة.
لم يجد شعب الباجاو ابنة الملك, ولم يعد الشعب إلى اليابسة والتصق بالبحر, وصارت البداوة والعزلة عن الأقوام المجاورة سِمة لهم.
لايعرف الباجاو الطبقية ولا نظام الحكم لقلة احتكاكهم بالشعوب المجاورة, وهم يتكلمون لهجات عشر لغات محلية ويتفاهمون بها, ويشير الأنثروبولوجيون والأطباء الذين يزورونهم إلى أن طحال الفرد من الباجاو أكبر بمرة ونصف من طحال الإنسان العادي نتيجة للتدريب الذي يحصلون عليه من مكوثهم تحت الماء للصيد لأكثر من خمس دقائق في كل غطسة!
بدو (لاكيتا) والجيران
تعني لاكيتا باللهجة المحلية في جزيرة سارواك الإندونيسية : الرجال الأقوياء, وهم جزء من قبيلة (الإيبان) التي تعيش قرب المستنقعات وأراضي الأشجار المتكاثفة في (سارواك) عند حواف المدن.
قبيلة الإيبان هذه كانت في زمن بعيد تسمى قبيلة (قاطعي الرؤوس) لأنها تقاتل الأعداء المجاورين الذي ينافسونها في السيطرة على الغابات المترامية في صيد الخنزير البري وأسماك الأنهار الصغيرة , فإذا ظفر اللاكيتي بعدوه قطع رأسه للتدليل على قدرته وشجاعته.
منعت الحكومة الإندونيسية قبيلة (الإيبان-لاكيتا) من الاستمرار في بناء أكواخهم المحلية المصنوعة من الأشجار، هي والقبائل الأخرى، ونقلتهم إلى مجمعات مجاورة للغابات ليعيشوا في أجوائها دون أن ينغمسوا في سلوكياتهم غير الحضارية. بنت لهم بيوتاً متباعدة عن أعدائهم السابقين وهيأت لهم حِرفاً جديدة, لكنها سمحت لهم بالذهاب إلى الغابات المجاورة في أيام محددة حيث يبنون بيوتهم القديمة من الأشجار ويصيدون الأسماك بالشص والرمح، ويطاردون الخنازير البرية بالرماح المدببة ذات القدرة العالية على الإصابة, إضافة إلى استخدامهم النبال المسممة الرؤوس التي تشل الفريسة قبل أن تموت.
بدو (البنان) في جزيرة سارواك مازالوا يمارسون حياتهم في الغابات المجاورة للتجمعات السكانية الجديدة التي هيأتها الدولة لهم, وهم يستخرجون أنواع السموم من لحاء الأشجار المجاورة ليدهنوا بها رؤوس الرماح القاتلة التي تحوي خمسة عشر نوعاً من السم.
بدو البنان مازالوا يعايشون الطبيعة التي قدمت لهم الكثير من لباس وطعام وأزياء وبيوت غابيّة يصنعونها من أشجار الغابات التي يعشقونها ويفضلونها على الحياة الجافة- في عرفهم – التي تقدمها الحضارة الجديدة لهم في بيوتهم المستطيلة المشيدة من الخشب والطوب معاً، وفي بيئة نظيفة خالية من أمراض الغابة التي ظلوا يعشقونها ويغنون أغنياتها ويعيشون أحلامها دوماً.