بغداد في منتصف القرن الماضي: سياسة وكباريهات!

907

ارشيف واعداد عامر بدر حسون /

كنت أحلم بالعراق وبغداد، وكنت أتخيل ليالي ألف ليلة وليلة، وتمنيت ليلة من تلك الليالي على ضفاف نهر دجلة!
ثم استيقظت من أحلامي لأجد نفسي في فندق سمير اميس.. أجمل فنادق بغداد، وجلست أستريح من عناء الطائرة في حديقة الفندق التي تطل على نهر دجلة..
وأخذ الخيال يداعبني ويصور لي بغداد مدينة هارون الرشيد في صورة فاتنة ساحرة..
أم كلثوم في كل ملاهي بغداد!
خرجت من الفندق أسأل عن شارع الرشيد.. أجمل وأعظم شوارع بغداد، فإذا بأحد المارة يقول لي:
– هذا شارع الرشيد!
وقفت وسط الطريق وقد أخذتني المفاجأة، كان شارع الرشيد من شوارع الدرجة التاسعة المخفضة إذا ما قورن بشارع فؤاد الأول بالقاهرة او شارع سعد زغلول بالإسكندرية.. الرصيف لا يزيد عرضه على متر واحد والأبنية على جانبيه لا تعلو أكثر من طابقين او ثلاثة.
المرأة العراقية!
وبدأت أتجول في طرقات بغداد لأمتّع النظر بأجمل ما في العراق، وكانت المرأة العراقية، فلا هي شرقية ولا غربية! تلتف في عباءتها السوداء ويطل وجهها الصبيح بألوانه الحمراء على الخدود وبألوان الدماء على الشفاه وتترك هذه الفتنة نهباً للعيون. وفي إحدى دور الجمعيات النسائية راعني أن كل واحدة منهن كانت تأتي الى باب الجمعية وقد ضمت أطرافها بـ(العباية) فيبدو القوام الرقيق بملابس من أحدث الموضات..
وكثيرات من العراقيات نزعن العباية وأخذن بالسفور، لكن واحدة منهن لم تجذب انتباهي كما كانت تفعل “أم العباية”.
العباية في الجامعة العراقية!
للتعليم العالي في العراق كليات متفرقة لم تضمها بعد فكرة الجامعة، ولكنها نواة للجامعة العراقية الجديدة، وهي كليات الحقوق والطب والهندسة والصيدلة والتجارة ودار المعلمين. ويحيا طلبة هذه الكليات حياة جامعية، فتضمهم بين طالبات وطلبة المدرجات، ويلقى عليهم الأساتذة محاضراتهم على النظام الجامعي، وإن كانت الجامعة لم تنشأ بعد….
كلية الحقوق
بناء ضخم، يجمع ألفي طالب وأكثر من مئة طالبة، فمن بينهم من يتفرغ للدراسة، ومنهم من التحق بالوظيفة ورغب في إتمام دراسته..
وجوه غريبة.. موظف تجاوز الأربعين الى جانب شاب لم يتجاوز العقد الثاني.. وضابط برتبة اليوزباشي الى جانب شيخ معمم.. وما أكثر الصحفيين الذين جاؤوا، ليتموا دراستهم مع قيامهم بمهنتهم الصحفية..
في قاعة خاصة، أو في أحد أركان حديقة الكلية، اجتمعت الطالبات بعيدات عن أعين الفضوليين فترى بينهن السافرات العصريات والمحجبات اللائي لم يتركن العباية السوداء بعد.. وهؤلاء اللاتي نزعن العباية عن الرؤوس وحملنها على الأيدي.. إنهن يعشن في عزلة فرضتها التقاليد والهمسات!
في الكلية أساتذة مصريون وهم الدكتور جابر جاد أستاذ الاقتصاد، والدكتور مصطفى كامل أستاذ القانون الجنائي، والأستاذ جميل الشرقاوي أستاذ القانون الروماني عدا أساتذة من فلسطين..
دار المعلمين
وعلى مسيرة نصف ساعة تقوم دار المعلمين العالية، وهي تجمع كليتين.. هما الآداب والعلوم.. وتضمان أقساماً متفرقة متعددة.. وفيهما حياة جامعية صادقة.. فالطلبة والطالبات يظلهم جو علمي، والشعراء بين طلبة دار المعلمين..
كليات متفرقة
في كلية التجارة استقبلنا الدكتور حسين خلاف عميدها المنتدب من مصر وطاف بنا في أرجائها فمررنا بغرفة ملاحظة الكلية، الآنسة ساجدة، وهي من خريجات كلية الحقوق.. وهكذا استطاعت الفتاة العراقية أن تنال وظيفة في كلية التجارة..
وهناك الطالبات، وما أكثرهن، قد أخذن في الكتابة على الآلة الكاتبة وكلية التجارة حديثة العهد ولم يتخرج فيها طلبة بعد، وكلية الهندسة.. كانت الى عهد قريب مدرسة صناعية ثم تحولت منذ خمس سنوات الى كلية لا يلتحق بها إلا حملة الشهادة الثانوية وما زالت الفتاة العراقية حديثة عهد بمثل هذه الكلية، فلم تلتحق بها سوى طالبتين.
مدينة الطب
في مكان بعيد عن هذه الكليات.. وفي وسط بناء المستشفى الملكي الكبير.. تقع مدينة الطب.. وتشمل كليتي الطب والصيدلة ومدرسة الموظفين الصحيين ومدرسة القابلات، وقد كان اليهود الى عهد قريب يملأون أروقة هذه الكليات.. ولكن في هذا العام حرمت الكلية التحاقهم بها..
إن الفتاة العراقية تقف بجانب زميلها في حجرة التشريح تؤدي عملها وقد حطمت أغلال التقاليد..
الحياة السياسية
الشاب العراقي الجامعي لا يخلتف عن شباب الجامعة المصرية من حيث الاشتغال بالسياسة، فكلية الحقوق هي زعيمة الإضراب.. ينقسم طلبتها الى عدة أحزاب يتراشقون السّباب كل يوم على أبواب الكلية، فإذا ما اتحدث كلمتهم ثاروا وهتفوا بالإضراب فتتبعهم بقية الكليات.
أما دار المعلمين، وهي تضم كليتي الآداب والعلوم فقد تأثرت كثيراً بالدعايات اليسارية، فكأنها صورة من كليتي الآداب والعلوم في مصر.. وتنشب فيها المعارك بين الفريقين اليساري واليميني.. ثم تهدأ العاصفة شهراً لتستأنف الإضراب.
ولقد بدأ الشباب العراقي يتجه نحو الميول اليسارية نتيجة للإضراب السياسي وانتشار النظام الإقطاعي بشكل مخيف!
الفن في العراق
في شارع الرشيد.. الطريق الرئيس في مدينة بغداد تنتشر دور اللهو، وينتشر الفن.. دور التمثيل تكاد تكون معدومة، أما السينما والكباريهات فهي على طول الطريق.
جولة في الكباريهات!
من ملهى الفارابي، الى أبي نوّاس الى الجواهري.. يسيطر الرقص البلدي بما فيه من ثورة تقوم على هز البطون واللعب بالأرداف وإظهار ما خفى وراء “بدلة الرقص”.. وتؤدي هذه الرقصات بعثات من شارع عماد الدين او عراقيات أخذن الفن عن زميلاتهن أو عن السينما وتكاد الملاهي تتشابه في بغداد والقاهرة من بعض الوجوه فيسيطر “الفتح” على الصالات، والآرتيست التي لا تسطيع أن تسلب من “ابن الذوات” مئة جنيه في الليلة لا تصلح للعمل..
اعلام الفن!
وتتبوّأ عرش الغناء في العراق السيدة سليمة مراد، وهي يهودية عراقية، لا تؤدي سوى الألحان العراقية: يمّه يا يمّه.
وتسأل عن معنى يمّه فيقولون لك إن معناها “يا أمي”، ويقابل عبد الوهاب هناك المطرب محمد القبنجي وأكثر أغانيه اللون الشرقي القديم فيقدم قصائد وتواشيح.
أما منولوجست العراق الأول عزيز علي فهو مؤلف وملحن ومغنٍّ!
ومن مونولوجاته التي يرددها شباب العراق مونولوج فلسطين
يا عرب هل استعمار
شاعل فلسطين بنار
لو منعجل بخذ الثار
للأبد يلحكنه العار
أم كلثوم وشككو!
وتكاد أغاني أم كلثوم تسيطر على ملاهي العراق، فلا يخلو ملهى من مطربة مصرية تؤدي لحناً من ألحان أم كلثوم التي يعشقها إخواننا العراقيون ويتأوهون لسماعها، ولكنهم يشكون ويقولون إن كثرة ترديد هذه الأغاني أفقدها روعتها و”هلهل” ألحانها..
أما شكوكو فقد أخذ عنه العراقيون كثيراً من ألحانه وتتلمذ عليه كثير من أهل الفن في العراق ويرددون ألحانه ومنولوجاته.
السينما
ودور السينما في العراق، برغم كثرتها، لا تزيد فخامة على سينما ايديال وأولومبيا!
وهي تعرض في أغلب الأحيان أفلاماً مصرية، ولو أن إخواننا العراقيين يطالبون بترجمة اللغة العامية المصرية الى عامّية عراقية!
ولقد بدأت نهضة سينمائية جديدة في العراق قوامها ستوديو بغداد، وهو يعد فيلمين عراقيين لعرضهما في الموسم المقبل، وهما يدوران حول بطولة العرب وشجاعة عنتر!
شباب العراق يستعد للقتال
في الرستمية.. بعيداً عن بغداد، وعن صخب المدينة وسهرها.. وعلى ضفاف دجلة تقوم الكلية الحربية في العراق.
هؤلاء هم شباب العراق..
روح وثابة، تعوّدوا منذ التحاقهم بالكلية على الحياة الخشنة المضنية.. فلا أثاث ولا رياش ولا بذخ ولا فقر ولا غنى.. الكل متساوون لا فرق في المأكل او الملبس او المعيشة..
طلاب جاؤوا من الشمال والجنوب ومن الحواضر والقرى بلهجاتهم المتباينة ونزعاتهم المختلفة، صهرتهم الحياة الجديدة، فأصبحوا أسرة واحدة تعيش معاً.. شعارها الطاعة العمياء..
وانتهى التدريب اليومي، وقام الطلبة باستعراضهم بعد أن اجتمعت صفوفهم، ينشدون نشيد الكلية العسكري في صوت جهوري يبعث الرهبة.. ويدعو الى الحماسة..
وعاد بنا قائد الكلية الى حجرته نسأله عن كليته..
* متى أنشئت؟
– في عام 1923.. وستحتفل بيوبيلها الفضي هذا العام..
* كم كان عدد طلبتها عند إنشائها؟
– 60 طالباً..
* والآن؟
– تجاوزوا الخمسمئة..
* من أبرز المتخرجين فيها؟
– الملك غازي..
الملك غازي
إن صورة الملك الشاب تعلو جدران الكلية.. في بهو الطلاب تطالعنا صورته بملابسه العسكرية.. وفي قاعة التمثيل والمحاضرات صورته بملابسه الملكية.. وفي بهو الضباط وحجرات الأساتذة والقادة مازالت صورة الملك غازي تزين جدرانها..
لقد مات الملك غازي ولكن قلوب العراقيين مازالت جريحة.. ومازالت الكلية تذكر ابنها الذي عاش بين جدرانها طالباً بسيطاً يتلقى دروسه كأي طالب آخر.. كان يعيش هنا كفرد بسيط يكره من يحترمه كأمير ويلح في معاملته ويقاسي ما يقاسيه الآخرون من عناء.. تسلق الجبال والزحف على الأرض والقفز والفروسية.
لا جديد في العراق!
دخلت العراق وخرجت منه دون أن أجد جديداً يميز العراقيين عن بقية الشعوب العربية..
إلا أن اللهجة العامّية في العراق لا يمكن فهمها إلا بصعوبة وكنت كثيراً ما أفضل التفاهم باللغة الإنجليزية عن التحدث بلغتهم الدارجة التي يتخللها دائماً كلمة “أكو وماكو”..
ويضرب العراق الرقم القياسي في تعدد الأزياء فلكل قبيلة “عقال” خاص، وفي المدن يرتدي البعض (الفيصلية) والبعض الآخر يرتدي العمامة..
والتعصب الديني هناك غريب، إنه تعصب بين أبناء الدين الواحد وليس بين الطوائف المختلفة.. فعندما سألت عن المحاكم الدينية المختلفة هناك همس في أذني صديق قائلاً:
– تجنب هذا الموضوع!