تحقيق إذاعي عن سجن بغداد المركزي في الخمسينات ومكاتبه العجيبة
ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
أجرت اذاعة الشرق الأدنى في العام 1955 تحقيقاً اذاعياً في سجن بغداد المركزي في الخمسينات، وقد اعادت نشره في المجلة الصادرة عنها مجلة الشرق الأدنى في عددها الصادر في 1955/1/16 وهو تحقيق يعطينا فكرة عن السجون والسجناء يومذاك:
سجين: اختلفت مع صديقي على حب راقصة في الملهى فقتلته!
سجين آخر: هذه اول سرقة لي للنساء!
عرف ميكروفون الشرق الأدنى كيف يسلك سبيله ليخترق جدران سجن بغداد المركزي.. لمَ اختار هذا المكان بالذات؟ فالمعروف اننا جميعا نكره السجن ونرهبه.. وقليل منا اتيحت له فرصة الاطلاع على ما تضمّه جدرانه العالية من نماذج بشرية.. ولكن الميكروفون شديد الفضول.. لا يجب ان يحبس دائما وراء ابواب الاستدوديو المزدوجة.. فينطلق بين حين وآخر ليجول هنا وهناك، لا يعوقه سور عال او باب ضخم.
بدأنا العمل في مكتب امير اللواء السيد طاهر الزبيدي مدير السجون العام في العراق.. وهو رجل يتمتع برصيد كبير من الشعور الإنساني، وقد وجه للمستمعين رسالة قال فيها:
“تغيرت نظرة المنطق الحديث الى مفهوم السجن تغييرا كليا عنها في عرف المنطق القديم، ففي القديم كان السجن رمزاً للتعسف والاضطهاد واليوم هو مدرسة تهذيبية تقوّم ما اعوج من اخلاق المذنبين، وقد دأبنا، بالسعي المتواصل، على رفع مستوى السجون وقطعنا ولله الحمد شوطا كبيرا في هذا المضمار، فبين جدرانه مكاتب مفيدة تعمل بجد ونشاط، منها مكتب العلاج النفساني، ومكتب التثقيف، والتهذيب، ومكتب تنمية الشخصية.”
ورافقنا سعادة المدير في زيارتنا للسجن الرئيسي الذي يضم اكثر من سبعمئة شخص، وفي الباب ادى الجنود التحية، وفتح الباب الضخم واشرفنا على فناء السجن.
مئات من الرجال بالزي الرسمي، بدلة بيضاء وحذاء اسود.
بين هؤلاء المساجين قتلة، بينهم سارقون وبينهم محتالون ومغتصبون كلهم خرقوا القوانين وتعدوا على حريات الغير، وبعضهم ازهقوا ارواحاً بريئة، وتختلف دوافع الجريمة وتتنوع ، هي في بعض الأحيان امرأة فاسدة، وفي احيان اخرى طمع او حقد او غيرة او نزوة طائشة.
كل هؤلاء عبثوا بحرية الآخرين فجاءوا الى السجن يدفعون الثمن من حريتهم وهو ثمن سيعود عليهم بالكسب لما سيتعلمونه بين الأسوار العالية ووراء الأبواب الحديدية والسلاسل المحكمة.
سيتعلمون ما نتيجة اقتراف الذنب والتعدي على الغير.
ويتعلمون معنى الحرية الحقة، ومعنى فقدانها.
سيتعلمون مهنة تنفعهم حين يخرجون الى المجتمع.
سيتعلمون كيف يؤدون واجبهم كمواطنين نافعين.
يصبحون مواطنين صالحين لأن لكل واحد منهم مجالاً في مرافق التعليم والتثقيف وهذه أهمها: تجليد الكتب، الرسم والفنون الجميلة، صناعة السجاد الملوّن، الخياطة، النجارة، صنع الأحذية، الخياطة، النجارة، ويتلقون دروساً في محو الأمية، ودروساً في التهذيب والاخلاق، المكتبة العامة للمطالعة، قسم الحدادة، مصنع النسيج، الألعاب الرياضية..
والطعام في السجن تتوفر فيه القوة الحرارية، حسبما يقرر طبيب السجن، وهم يتناولون كل يوم الشاي والشوربة، والجبن والفواكه واللحوم والخضراوات والأرز.. وهناك لجنة من السجناء تشرف على تسلم المواد الغذائية كل صباح وارسالها للمطابخ ومن ثم توزيعها في اوقات الوجبات الثلاث.
وتجولنا بين السجناء، رأينا كيف يحيطون بمديرهم كأنه أب رحيم، وهو يربت على اكتافهم، يضحك مع هذا ويسمع شكوى ذاك، يعرف تاريخ كل سجين، ويجيب جميع طلباتهم اذا كانت ضمن حدود القانون، انه يصر بعناد شديد على ان يمارس مفهوم الجملة التي وضعها على باب السجن.. “السجن مدرسة تهذيب وتعليم”.
تحدثت الى بعض السجناء.. احدهم يحب الرسم ويقضي ايامه بين جدران المرسم، ودار بيني وبينه حوار قصير..
* ما هي المدة التي قضيتها هناك؟
– حوالي السنتين.
* كم بقي لك؟
– خمس سنوات.
* وما الذنب الذي ارتكبته؟
– قتل.
* انت قتلت او حرضت على القتل؟
– انا قتلت.. بالمسدس.
* من قتلت؟
– صديقي.
* صديقك!! ولماذا قتلته؟
– كلانا احب نفس المرأة، وأراد ان يستأثر بها.
* هل كنت تريد الزواج؟
– لا.. انها راقصة.. في كباريه.
اسمع يا أخي.. اذا اردت ان تقول للناس شيئاً عني، بلغهم اني كنت أحمق طائشاً، فارتكبت الجريمة في لحظة طيش، دون سبق اصرار، وانا الان اتعذب من وخز ضميري.. اني نادم على فعلتي، وها أنا أكفر عن ذنبي.
* ماذا ستفعل عندما تخرج من السجن؟
– سأكون مثالا حياً للمواطن الصالح، وأغادر هذه النفسية البشرية وانا مشفق عليها من وخز الضمير.. الضمير.. الضمير الذي يرافق الإنسان الحساس كظله.
وانتقلت الى ركن آخر لأحادث سجيناً آخر.. سارق سطا على بيت آمن ليغتصب الحلي والمجوهرات من ايدي النساء، وأكد لي انه لم يستعمل العنف.. اكتفى بالتهديد الكلامي.. وقبل ان يبزغ فجر الصباح كان ورفاقه في السجن واعيدت المسروقات الى اصحابها، وقد اكد لي ان رفاق السوء هم المسؤولون عن جريمته، زينوا له هذا العمل ودفعوه الى ان يدخل في العصابة، ولم يقم بأكثر من تجربة واحدة، كانت كافية لأن يصبح من نزلاء السجن، هذا السجين يهوى الأرقام ويحفظها عن ظهر قلب.. روى لي تاريخ ارتكاب الجريمة.. وتاريخ بدء محاكمته وتاريخ دخول السجن، والتاريخ الذي سيغادر فيه.
أمنيته، بعد مغادرة السجن، ان ينتسب الى ناد اجتماعي ليساهم عملياً في بث روح الفضيلة بين الآخرين وخدمة المواطنين بكل ما يتيسر له من اساليب فعالة.
ولعل اعنف تجربة قمت بها في هذه الزيارة حين طلبت لقاء احد المحكوم عليهم بالإعدام.. فجاءوا به الي ببدلته الحمراء القانية بلون الدم الذي اراقه دون حق.. وأقبل يجر السلاسل الحديدية التي أحكم وثاقها حول قدميه، وهذا الرجل قاتل، قتل ابن خاله ورفيق صباه.. طمعا في مال، فقررت المحكمة ان يدفن الثمن غالياً، اغلى ما يملك، حياته.
وعندما يصل هذا العدد الى ايدي القراء تكون الارض الخيرة المعطاء التي مدت هذا الرجل بقوام الحياة قد استردت عطاءها، ابتلعته في جوفها، سخية العطاء ارضنا ولكنها في النهاية تسترد عطاءها وتبتلعنا كلنا.
وتحدثت الى كثير من السجناء..
لكل منهم قصة.. قصة تختلف في دوافعها وتختلف في تفاصيلها.. ولكنهم جميعاً يعترفون بأنهم اخطأوا وبأنهم الآن يدفعون ثمن الخطأ.. يدفعونه من حريتهم ومن مستقبلهم.
وبعد، فإن بوسع الزائر لسجن بغداد المركزي ان يلمس كيف تتحول الجدران العالية اسواراً لمدرسة تهذيب وتعليم..وان يدرك كيف يعمل المشرفون على السجن على تقوية جذور الخير في النفس البشرية لتخنق الشر وتضبط الأنانية..