تعال إلى طهران حيث الندى يعلق في العيون!

984

طالب عبد العزيز/

تعال، أدلّك على الخمرة باذخةً، بنتَ عشرٍ، أتلفها الأرمنيُّ بدارٍ ظُلمةٍ. تعال إلى طهران، حيث الصبايا شاهنشاهيات، فارعات يخرجن كما كانت تخرج من قصرها فرح بهلوي. تعال إلى طهران فهي مدينة طيعة لكل ذي سفر مثلي، مبتلىً بالسماء تصبح زرقاء في الجبل البعيد، وتمسي سكرانة في الأزقة، إنَ النساءُ يتخطفنك بحسنهن، فدع ظلمة قلبك في الدنِّ، تخرج سكراء من غير خمر. أنت في البلد الذي منه قرة العين وكسرى وحافظ.

عطر العفاف

أمس في المتنزة(باغ إيران) كان الشجر الحور أعلى من برج ميلاد، حيث يطل الناس على طهران أكملها، رأيت الندى عالقاً في العيون التي تختفي والسواقي، رأيت العشاق الذين اكتفوا بالظل مثوى وبالعشب فرشاً ووسائد، رأيت المصابيح تجري إلى منبت لها، ورأيت الشجر، كل شجرة زيتونة. يقول صديقي المترجم إن البنت التي أشركها جلستنا تدعى “زيتون”، مات والدها في الحرب، على جبل في الحدود، المهندس والدها لم يشأ الذهاب إلى هناك، لكنهم أخذوه، وحين مات كانت لما تزل زيتون في بطن والدتها بعد. قال سمّوا ابنتي زيتون، أنا السلام علي. كان يكره الحرب، لكنه مات بها، يحب الموسقى، لكنه مات بين صخب البنادق والدبابات. تجلس زيتون قبالتي، شعرها ينسرحُ أشقرَ، أقول لعينيها السلام، فقد كانتا بسعة الماء والزهر الذي بيننا في الحديقة.

الفلسفة والعرفان

على عمود النور، في (باغ إيران)، في الظلمة التي يختل خلفها العشاق والشعراء المتوهَمون، أقرأ” حجاب أترَ خُوشْ أفاف” يقول صديقي المترجم إنها تعني( الحجابُ عطرُ العفاف) فأستحسن الترجمة. هي يافقطة من ورق مقوّى، يعلقها حراس الحديقة ويهملها المتجولون، فلا أحد يعيد الضوء لمصباح تقادم النور في زجاجته، البلدية توسع من دائرة العتمة، فيطول عناق وتشتبك أصابع، ولا أحد يصلح إيشارب امرأة سقط، لا أحد يفزع لصوت قبلة تحت إفريز المكتبة. هكذا، كانت كتف المرأة تقترح شكل الجدار الذي سترتمي عليه، محمولة على ذراعين من غلمة وشوق. هكذا، كان الشعر المنسرح ينهمر خارج حدود التشريع، من يجرؤ يحشره في خرقة؟

لا أعرف من أين يأتي الماء كله، لم أتبع ساقية حتى نهايتها، أنَّى لي ذلك، كل ساقية في “باغ إيران” مترعة، والماء يصعد أو يهبط هامساً، لا يشرك نفسه في قبلة ولا ينقطع في عناق، والحديقة إيوان يُمتدح تحت أفاريزه الشعر والعطر والجلّنار، شقٌّ من الآس والزهر أخرجنا إلى الشارع، كانت الأعمدة بطهران تضاء فتتكشَّفُ لنا عن باب لمطعم، أخذنا البوّاب منه. تقول يافطة عند المدخل إنه “مطعم الملا صدرا”. يقول سرمد الطائي: إن رواية لا يشكُّ بصحتها، أنبأته، بأنه مات على طريق الحج بين أصفهان والبصرة، بعد مغادرته لمسجده الذي نفي إليه بـقرية (كهك) وهو مدفون بالزبير عند الحسن البصري ورابعة العدوية. هذا الذي جمع الفلسفة بالعرفان، يلتقي بالذي جمع السنّة بالزهد. هذا متهم بالتجسيم وذاك متهم بالتدليس. كان الملا صدرا شيخَ المتألهين، يقول بوحدة الوجود، كفّره العلماء ولم يسخط عليهم. وهو الذي أكثر من النقل عن ابن عربي ولم يذكره إلا بالتقديس والتعظيم، في مطعم الملا صدرا سمعنا الموسيقى وصوت لعله “كَروه ماه بانو.”

كم كان الزخرف باذخاً!

في الضاحية الأجمل، وسط المدينة، حيث لا تبعد محطة المترو عن منزله سوى متجرين وشجرة عالية، يسكن السيد عباس، كان قدِمها من “يزد” قبل ثلاثين عاماً، واتخذ من طهران العاصمة مقاماً. استقبلنا عند الباب، ثم وبصمت ناسك يعرف ما تخلفه ابتسامة صادقة، بخطىً كريمة وئيدة، استوى إلى معصرة الرمان يسألها عصيراً لنا، كم أحبُّ الرّمان هذا، قلت: كنت أسقيته نبيذاً، عتّق في دنان باكو بآذربايجان. قال: ويستخلصون منه الدبس، يضعونه على طعومهم. الأذريون جبليون وطهاة. ومن طاولته الكبيرة إلى طاولتنا الصغيرة حمل سلة الفاكهة، تفاح ويوسف أفندي وبرتقال لم أسأله، لكنه قال: هي من بستان جدّي، بيزد، ظلَّ هناك وحيداً، متعلقاً بما حوله من النخل وأشجار الفاكهة، ولأنني أجهل الخريطة، فقد جاءني بها من الحاسوب، وأشار إلى رقعة صفراء وسط الامبراطورية الواسعة، كانت الطريق إلى خراسان أقرب منها إلى طهران وهمدان، هي في البيد البعيدة واحة، يعبرها العائدون من شيراز.

رأيته يغمس قصبته في دواة أمامه، يحبّر أبياتاً من شعر حافظ، ويخط أسماء المدن الإيرانية، كانت القصبات والأقلام مقطوطات وبلا عدد في الأرفف، أعلى المكتبة، وبين الكتب، وكان (الفارسيُّ النسخ) سيداً في أوراقه، سألته ما إذا اكرمني بخط اسمي، في قرطاسٍ أحمله، ففعل. ياه، كم أحبُّ الباء طويلة قلتُ، كم كان الزخرف باذخاً..

صارت الأرض ملونة

يتلقى تلاميذ الابتدائية بإيران دروساً في الخط، وحين تصفحت كراسة ابنه لم أر الكوفيَّ، أبداً. لم أشأ أسأله، وحتى ساعة مغادرتنا منزل السيد عباس كانت زوجته ممسكة “درفشها” تحيك في كنزة من الصوف، الأحمر فيها بلون النبيذ الفاتح، لما تبلغها بعد، تقول أحبُّ الشتاء، أحبُّ وشائع الصوف الملونة مركونة في الخزانة، سأكون سعيدة إذا اكملت الكنزة، انا أستعيد معها ما قرأتُ في الليالي الباردة من قصص وحكايات، كان عباس يصلح ما انعقد وتشابك من الخيوط، صارت الأرض ملونة، لكنه، ساعة يجد الوقت مناسباً وقد انحلت عقد ورخصت خيوط، يلتقط تمرةً يقول أنَّ جدّهُ بعثَ بها من هناك.

في الليل، تركتُ مقعدي في الحديقة وخرجت أبحث عن إحداهن، قالت إن اسمها أفسانة، ياه، كم جميل الاسم !! تأبطتني. كانت أعمدة النور تركض خلفنا.