جسرالصرافية.. أطول جسور العالم وفاتنها يعاني الإهمال

764

يوسف المحمداوي – تصوير: كرم الاعسم /

مثل نمساوي يقول :”الرجل الاصيل يتحدث دائما بالخير عن المكان الذي أمضى فيه ليلته”، فكيف الحال عن المكان الذي أفنيت سني عمرك فيه، وتراه بالقلب لا بالعين سلطانا للجمال من غير تملق ولا محاباة، نعم إنَّه العراق فأنّى وليت وجهك فيه يتناثر الجمال بقلبك قبل عينيك جنوبا شمالا شرقا غربا، يرسم لنا هذا الوطن لوحات من الفتنة والسحر حباه الله بها وصنعتها أياد وقلوب عشقت أوطانها إلى حد الهيام.
من تلك اللوحات التي أنعم البشر السوي والمخلص لبلده بوجودها على هذه الأرض هو جسر الصرافية أو العيواضية أو جسر الحديد كما يطلق عليه أهل بغداد، جماليته بالامس تفوق جماليته اليوم بالتأكيد والسبب الرئيس بذلك هو غياب قطاره بعد رفع سكة الحديد التي كانت تكحل عيون جانبيه من قبل النظام السابق بعد تعرضه للقصف ابان حرب الخليج في العام 1991 ليستخدم ذلك الحديد اثناء الحصار لبناء جسر آخر، فكم أنت معطاء أيّها الجمال الحديدي وأنت تتنفس هواء دجلة وكرمها.
أطول جسور العالم
هذا الشاهق في قلوبنا قبل أن يجمع قلوب أهالي الوزيرية والعطيفية كان من المقرر أن يكون من حصة مدينة سدني في استراليا، لكن الحكم الملكي في العراق قرّر شراء ذلك الجسر من الشركة البريطانية (كورد بلايزرد) التي استغرقت بوضع تصاميمه مدة عامين، وقد كلّف الدولة العراقية كشراء وتنفيذ مع بناية المحطة العالمية التي رافقته بالانشاء ثلاثة ملايين دينار عراقي، وقد قامت بتنفيذه شركة بريطانية أخرى في موقعه الحالي هي (هولو) في نهاية العام 1946 .
من المفارقات في ذلك الزمن أن يكون جسر الصرافية هو أطول جسور العالم على الإطلاق، إذ بلغ مع ملحقاته من الكتل الخرسانية التي تحمل القطار (2166) مترا والجزء الواقع على النهر منه يبلغ (450) مترا، في حين صاحب الرقم القياسي كأطول جسور العالم في ذلك الزمن هو الجسر الحديدي الواقع على نهر الراين في المانيا بطول (1500) متر فقط، ليتربع على عرش الجسور كأطولها وأجملها، وأقول أجملها لأنَّه لا يمكن أن تتصور فرحة أهالي بغداد وهم يشاهدون القطار معانقا الجسر وهو يسير متبخترا بقيادة السائق العراقي الراحل (عبد عباس المفرجي) ليجوب مناطق بغداد، وهو نفس السائق الذي قاد قطار الموت باتجاه السماوة لينقذ العشرات من أرواح قادة ومناضلي اليسار في ذلك الزمن، مع الإشارة إلى أن ذلك السائق هو والد الاعلامي والناقد السينمائي علاء المفرجي.
انتكاسات الصرافية
تعرض هذا الجسر لعدة انتكاسات قبل الانجاز وبعده، منها على سبيل المثال لا الحصر، أنّه بعد توقيع العراق لمعاهدة بورتسموث حصلت وثبة 1948، وعد العراقيون ذلك الجسر سيقوم بخدمة الجيش البريطاني وتنفيذ أغراضه فقاموا بمهاجمة الانكليز والهنود العاملين فيه بل ورموا أجزاء منه داخل النهر، لكن أعيد العمل به في وزارة السيد محمد الصدر ليتم الانتهاء من إنجازه في العام 1952، والانتكاسة الثانية التي طالت الجسر هي في العام 1991من قبل ما يسمّى بالتحالف الدولي في حرب الخليج، ولكنّه أعيد للخدمة بخبرات عراقية ولكن بغياب سكته الحديدية وقطاره، ثم جاءت الضربة الثالثة على يد الارهاب الذي لم يستثنِ بشرا ولاحجرا ولا حديدا، لتطال الجسر سيارة مفخخة وتهدم جزءا منه ويذهب إثر ذلك التفجير الارهابي العديد من الشهداء وسقوط العديد من الدور السكنية من جهة منطقة العطيفية وسقوط العديد من العجلات وسط نهر دجلة.
المصيبة الرابعة
الانتكاسة الرابعة ونتمناها الاخيرة التي يعيشها هذا الفاتن الحديدي هو الإهمال غير المبرر الذي طال أغلب أجزاء الجسر، فتجد الاسيجة التي تسوره شبه خارجة عن الخدمة بل غير صالحة له لكونها بالية، بل البعض منها لاسيما المرسوم عليها العلم العراقي متناثرة هنا وهناك، بل أحيانا تجد العلم العراقي الذي يتباهى بكلمة (الله أكبر) قد غيّبت كلمة الله في بعض الاسيجة وبقيت الله لوحدها والعكس صحيح، وهناك كتابات ملأت أجزاء الجسر بأصباغ سوداء ومشوهة منها ما معناه (رقم تلفون سائق كرين) والبعض منها ذكرى لشخوص كتبت بصورة رديئة وكأن الجسر ملكٌ لهذا الشخص، ناهيك عن حديد الجسر الذي ملأه الصدأ بدلا عن الالوان الجميلة التي يجب أن يتزين بها هذا الذي كان عملاقا للجسور في يوم ما، بالاضافة إلى سقوط أغطية العديد من الاعمدة الموصلة لإنارة الجسر والأوساخ التي تملأ أغلب مساحاته، وما تبقى من حاملات القطار أصبحت لافتات إعلانية ما أنزل الله بها من سلطان، فأين الجهات المختصة والرقابية التي همّها إن كانت جادة جمالية بغداد لا قبحها؟!
لا يحتاج أمير الجسور منكم غير العناية والالتفات اليه بنظرة جادة تعيد له هيبته وشبابه فتذكّروا تاريخه لتنظروا باهتمام وكما يقول محمود درويش: “بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان”.