جمهورية للشعر والفن يحرسها تمثال ملاك ويحميها دستور بوهيمي

648

عبدالزهرة زكي/

الطرقات إلى الشعر كثيرة، لكن واحداً من الطرق التي تؤدي إلى بلوغ مدينة الشعر والفن في فيلنيوس، عاصة ليتوانيا، يمر بشارعٍ للمشي محاط بعدد من الكافيهات التي يشغل الكثير منها الرصيف على الطريقة الباريسية، فيما لا أكثر من الكاليريهات والمتاحف في هذا الشارع، شارع بيليس الذي يبدو كما لو كان يراد به تهيئة المرء لدخول الشعر ومدينته.

قبل أن تتوفر لي فرصة زيارة فيلنيوس هذا الصيف كنت قبل سنوات قد كتبت في أكثر من مناسبة عن مدينتها الشعرية ذات الطابع البوهيمي والتي اختارها شعراء وفنانون من ليتوانيا ليقيموا عليها (جمورية للشعر والفن). ومن أجل ذلك وقع خيارهم على حي أوزيبوس في العاصمة.

كتبوا دستوراً لتنظيم الحياة بجانبها الروحي في ذلك الحي. لقد أرادوه قريباً من صورة مانمارتر بباريس أو كريستيانيا في كوبنهاغن. جرت ترجمة الدستور إلى معظم لغات العالم الحيّة (ترجم النسخة العربية الصديق الشاعر جمال جمعة)، وتم وضع الدستور بترجماته كلها على أحد الجدران القديمة في المدينة.

ومع أن فكرة المدينة تستلهم تجارب مدن أخرى في فرنسا وفي كثير من مدن العالم الحية الأخرى إلا أن الليتوانيين اندفعوا أكثر حين انتزعوا (ولو بخيالهم فقط) صلاحيات حرية مدينتهم الثقافية وشرّعوا من أجل ذلك ولأنفسهم دستورهم الغريب. إنها مدينة كانت في الأساس ولعقود مكاناً تجمّع فيه البوهيميون من فنانين وشعراء وكتاب وغيرهم وليس غريباً أن يكون دستورهم بوهيميا.

ينتهي شارع بيليس بمفترق طرق قصيرة، ومن هذا المفترق يبدأ طريقان أقصران؛ يفضي أحدهما إلى جسر خشبي صغير على نهر ضيق، نهر فيلينيا، حيث يوصل الجسر عابريه إلى (بوهيميا) حي أوزيبوس.
تتضح مفارقة المكان أكثر مع هذا الجسر؛ لقد أقيمت حواليه مقاهٍ كانت ضاجة بروّادها حينما عبرناه معاً، أنا وجمال جمعة، بينما تظل العلامة الفارقة هنا هي الأرجوحة التي تتدلى من الجسر عند أوسطه لتهتز جيئةً وذهاباً (بمن يرتقيها) ما بين الجسر الذي فوقها ومياه النهر المنسابة تحتها، تلك هي الأرجوحة التي تتسع لاثنين. وبموجب هذه الاثنينية الحميمة فقد عمدت العاصمة أيضاً وعلى طول ضفتي نهرها إلى إنشاء سلالم حجرية على سفح عشبي، حيث ينتهي كل سلم عند مقعدين فقط، إنهما مقعدان لعاشقَين، في مدينة تكتنز بالجمال والعشق والعشاق.
أقفال العاشقين التي أودعت عند سياجي الجسر ليست امتيازاً خاصاً بهذا الجسر، ففي أوربا وسواها ستجد أسيجة جسور كثيرة دائماً من يأتون إليها بأقفال قلوبهم ويعقدونها هناك قبل أن يرموا بمفاتيحها في النهر، إنها واحدة من أساطير العصر الحديث التي تعود جذورها إلى حكاية صربية تدور أحداثها قبل مائة عام، لكنها لم تنتشر كعادةٍ وطقوس يومية لدين الحب إلا في سنوات متأخرة بدأت عام 2006 في روما إثر رواية (أريدك) للإيطالي فيدريكو موكاي حين اختار آلاف الشبان ممن قرأوا هذا العمل الأدبي الرومانسي أن يضعوا أقفال قلوبهم عند سياج جسر في روما، تزايد العدد حتى خشيت البلدية من احتمال انهيار الجسر تحت وطأة الحب، لكن ليس بمقدور أحد أن يقف في وجه تيار الحب، لقد انتشرت العادة سريعا في كل أوربا وفي مناطق أخرى من العالم.

كان الحي اللاتيني هو النسخة الأولى التي جعلت من حياة الشعراء والأدباء والفنانين تعبّر عن افتنان خاص بحياة التشرد واعتزال الطبيعة المدنية للحياة المعاصرة. مصطلح بوهيميا رسخه الفرنسيون أساساً بعدما أخذوه عن ترحال وهجرات الغجر الرومانيين ومكوثهم حيناً بمدينة بوهيميا التشيكية، فكان الحي اللاتيني (بطابعه الثقافي والجامعي، وبتحرره المعهود)غرب السين بباريس هو التجربة الأولى التي انتشرت بعد ذلك في مدن أوربية أخرى؛ في سوهو (لندن)، وفي غرينتش بنيويورك، كما في شوابينج بألمانيا (ميونيخ) وسواها من مدن ثقافة القرن العشرين التي وفرت (كانتونات) اختيارية لبوهيميي الأدب والفنون وغواتهم. ولعل فيلنيوس المتطلعة إلى روح الغرب الرأسمالي تقدم مثالاً لهذه الكانتونات، فأرادته جديداً. لقد ترافق هذا النشء الجديد مع اختيار فيلنيوس عاصة للثقافة الأوربية عام 2009 بما يخص الجانب المعماري..

على مسافة خطوات عن الجسر الخشبي تبدأ (بوهيميا) أوزيبوس بالإعلان عن نفسها من خلال نصب مرتفع يتوسط ساحةً ضيقة يظهر في أعلاه (ملاك أوزيبوس) ببوقِه الكبير. أُنجز النصب الذي أقيم عام 2002 من قبل نحاتٍ من المدينة نفسها، وأُريدَ به تكريمُ روح أحد فناني المدينة الراحلين، حيث استلهم النصب مهمةَ الملاك إسرافيل إذ ينفخ في البوق ويدعو إلى النشور. (ملاك أوزيوس) بموجب هذا هو محيي المدينة وحارسها أيضاً.

وعلى بعد أمتار من يسار النصب نُقش دستور المدينة (الجمهورية)، بمختلف اللغات، على ألواح معدنية عاكسة صُفَّت على جدار قديم. يقف الزائر ليقرأ مواد الدستور فيصادف وجهه على اللوح؛ ربما هي فكرة غير مقصودة لكنها توحي بأنّ كل امرئ يمكن أن يجد نفسه في هذا الدستور الشعري الذي يتألف من إحدى وأربعين مادة، لا تتعدى الواحدة منها الجملة القصيرة التي تكثف، بيُسر تعبيري، معنى شعرياً من معاني بساطة مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان بمختلف مظاهرها وأشدها تلقائية.

تحدّث لنا واحد من مريدي (الجمهورية)، من متابعي نشاطاتها وفعالياتها، فأوضح أن تنوع الفعاليات التي رافقت بداية إعلان جمهورية أوزيوس كرّسها كواحدة من مدن الثقافة الجديدة في العالم. لقد شهدت شوارع (بوهيميا) خلال سنوات عمرها القصير كماً نوعياً من عروض مسرحية وسينمائية وتشكيلية، وقد تداخلت مع مهرجانات للشعر والموسيقى والرقص.
يفخر سكان ورواد المدينة بأن الحي الذي أقيمت فيه هذه (الجمهورية) كان يوماً ما واحداً من أفقر و(أخطر) الأحياء في البلد، لكن أوزيبوس الآن مكان رفيع ينظر إليه بتقدير وإعجاب، وهو واحد من أماكن استراحة ومتعة السائحين أثناء زياراتهم إلى العاصمة الليتوانية.

تيقنت من هذا الانطباع أكثر حين دلفنا بالمصادفة في زقاق فرعي ضيق ومعتم كان يخرج بنا من بوهيميا؛ ترددت أولاً، ثم تشجعت بعد حثٍّ من جمال، فإذا بنا، وبعد أقل من عشر خطوات، ننتهي إلى نهر فيلينيا وقد رقدت على ضفته الأخرى واحدة من أمتع الجنائن. لقد كنا في فردوس حقيقي اسمه منتزه برناردين.

لا يحرس جمهورية أزيبوس ملاكها المنحوت حسب، الجمال أيضاً هو حارسها الحي فيما يحميها ويحمي الحياة فيها دستور بوهيمي كتبه شعراء وفنانون في عاصمة ما زالت يغويها الشعر والفن.