حادث مروري يحيي صداقة قديمة بين شيخين من البصرة والموصل

666

عبد الزهرة زكي/

المرة الأولى التي عرفت فيها مواطناً موصلياً كانت في طفولتي، وكان ذلك في البصرة مدينة طفولتي.
كان المواطن الموصلي صديق والدي في مطلع الستينات، نُقل عمله من الموصل في الشمال إلى البصرة في الجنوب لأسباب سياسية، فكان الصديق الأقرب لوالدي. لقد عرفته كما أعرف أيَّ واحد من أعمامي.

لا أعتقد أنهما افترقا يوما طيلة سنوات وجود ذلك الصديق في البصرة.

ينتهي وقت عملهما وغالبا ما يكونان بعده إما في مقهى بالعشار أو في بيتنا، وغالبا ما أكون معهما، فقد اعتدت طيلة طفولتي رفقة والدي.

كنت بينهما في مرات كثيرة كانا يتناكدان أثناءها بكلام عن (السياسة) لا أفهمه لكن أفهم أنهما مختلفان، كان كل منهما ينحاز بما يخالف الآخر. كنت أسأل والدي عن داعي هذه الصداقة ما داما يومياً بهذا التناكد، فكان يقول لي: إنه صديقي هو ضيف طالما هو بعيد عن أهله ومدينته، لا عليك من السياسة.. كان والدي واقعاً يكره السياسة لكنه لم يكن يمنع نفسه من انحيازات متطرفة فيها إنما مع نفسه وليس للتناحر مع الآخرين.

لم يشعر يوماً بالغربة في البصرة. هذه مشاعر للألفة عادة ما يشعر بها أي عراقي حين يكون فيها، لكن تجربة ذلك الرجل الموصلي كانت هي التعبير الأول الذي تلمسته في تلك الطفولة عن تلك الطبيعة البصرية الآسرة.

لقد حماه والدي حين كان خصومه السياسيون يريدون النيل منه، وكانوا في موضع السلطة. العلاقات الإنسانية الطيبة التي ظل يحتفظ بها الوالد مع الجميع ساعدته في تأمين حماية صديقه الموصلي، فيما ساعد هو والدي كثيراً بحماية كثيرين من أقربائه حين انقلبت الأحوال ضدهم وباتت الجهة التي ينحاز إليها الصديق ويعمل معها هي الحاكمة في السلطة.
بعد سنوات، ومع تغيّر السلطة، افترقا، والدي وصديقه. لقد أعيد خلال أسابيع قليلة على التغيير إلى مدينته الموصل.
افترقا ولم تنته الصلة ما بينهما لسنوات.

لم يكن يمر عيد إلا وبعث الوالد له ببطاقة تهنئة عبر البريد، ومعها تذهب بطاقة مني إلى الرجل الذي لم أميّزه عن أعمامي، فيما كان البريد يحمل دائماً إلى المدرسة بطاقة جوابية من الموصل إلى الطفل الذي يراسله من البصرة.

وفي المرة التي عاد فيها والدي من سفر مفاجئ إلى الموصل يتحرى فيه، بمساعدة صديقه، عن شاب قريب لنا كان قد اعتقل هناك، فإن الهدية الأثمن التي كان يحملها معه هي من صديقه لي، وكانت ساعة يدوية سويسرية، أذكر أنها كانت ماركة نيفادا.

بعد هذا بسنوات طويلة، بأكثر من عقدين، تعرض يوماً ولدي حيدر، وكان طفلاً، إلى حادث مروري كسرت معه فخذه. كان حيدر مع جدته وأربعة من المقربين كانوا جميعاً عائدين من واجب اجتماعي في البصرة في الثمانينات حين تعرضت لهم سيارة عسكرية (زيل) نتيجة غفوة سائقها وتسبّبه بالحادث قريباً من قلعة صالح. لم يكن والدي معهم فقد ظل في البصرة لإتمام مراسم الواجب.

كنت جندياً لم يتصلوا بي عند حصول الحادث.. اتصلوا بوالدي ليحضر إلى مستشفى العمارة حيث يرقد حيدر وجدّتُه، أمي، وأثنان ممن كانوا معهما.

حال وصوله المستشفى اطمأن الحاج يرحمه الله على سلامة حيدر ومَن كان معه، وسأل عن مسبِّب الحادث فقيل له إنه رهن التوقيف في قلعة صالح على طرف ميسان الجنوبي.

هناك، في مركز الشرطة، لم يسأل الوالد عن ظروف الحادث ولا عن دواعيه، إنه إنسان يؤمن بالقضاء والقدر؛ لا أحد يتعمد إيذاء أحد في مثل هذا الحال، في الأقل ليس من المعقول أن يدفع أحد ما بنفسه إلى التهلكة بمثل هذا الحادث..

كان أول من التقاه الوالد في المركز هو الجندي الموقوف، سلمّه وجبة غداء كان قد حملها معه، واتصل بالضابط عارضاً التنازل عن الدعوى وعن أي حق يترتب لحيدر وللعائلة وطالباً منه الإفراج عن جندي مسكين في الحرب وحتماً ينتظره أهله في الموصل. وافق الضابط، فعاد مع الوالد إلى الجندي فسأله:

ـ منين أنتَ ابني؟ من أي محافظة؟

ـ جبوري من الموصل، عمو. وفعلا كنت مستعجل وأنا أسوق حتى أسلّم السيارة وآخذ إجازتي وأسافر.

ـ حياك الله، أنت مثل ابني واعتبرني بمقام عمك. خذ هذي الدنانير أجرة سيارة لك لتصل إلى أهلك، سلّم لي عليهم.. أكيد ما مستلم راتب.

حاول الجندي الامتناع عن أخذ المبلغ وهو يعبّر عن امتنان شديد. رفض الوالد ذلك حتى اضطر الشاب فأخذ منه المبلغ البسيط، وليظل ينتظر إكمال الإجراءات اللازمة لإطلاق سراحه.
قبل أن يغادر الحاج.. التفت فجأة كم يتذكر شيئاً مهماً نسيه وتنبه إليه متأخراً، فسأل الجندي:

ـ عمو ما دامك (جبوري) ومن الموصل.. تعرف (م.س.الجبوري)؟

و (م.س. الجبوري) هو نفسه صديق الوالد في الستينات، ما الذي جاء به إلى بال الحاج في مثل تلك الساعة.. أعرف أن الصلة بينهما فترت بعد طول الانقطاع حتى لم أسمع له ذكراً خلال السنوات العشر الأخيرة في الأقل.

كانت المفاجأة مذهلة للجندي وللوالد وللجميع.. كان الجندي قد بدأ بتناول طعام الوجبة التي جاء بها الوالد، وبفعل المفاجأة رمى الجندي اللقمة من يده وهو يسأل الوالد:

ـ مِن وين تعرفه عمو؟

ـ اخوي وصديقي بالبصرة. ليش تعرفه أنت؟

ـ معقولة يا عمي..! أنا ابن اخوه. هو ووالدي شقيقان من أب وأم.

حينها عاد الوالد، وعدل عن الذهاب إلى المستشفى، تأخر عن ذلك لساعتين، حيث لم يغادر قلعة صالح ومركز الشرطة إلا بعدما أكمل بنفسه إجراءات اطلاق سراح ذلك الجندي الذي كان يحتاج إلى كفيل ليطلق سراحه، فكان الوالد كفيله أمام القاضي الذي أكد مستغرباً وسعيداً أن هذه هي المرة الأولى التي يكفل فيها صاحب الدعوى المتهم.

عاد الجندي إلى الموصل واستعيدت معه صداقةٌ قديمة بين شيخٍ من أقصى الجنوب، البصرة، وآخر من أقصى الشمال، الموصل.