حسن الامام: انا والمقريء الشهير ابو العينين الشعيشع جيران في شارع محمد علي!

1٬215

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

كنت في بداية حياتي الفنية اسكن في فندق من الدرجة الرابعة في شارع محمد علي، كنت احتل حجرة من حجرات اربع تتناثر فوق سطحه، اما الحجرات الثلاث الباقية فقد كان يحتل الاولى منها الاستاذ الشيخ ابو العينين شعيشع مع اخيه الشيخ احمد، وكان الشيخ ابو العينين حديث العهد بالقاهرة وقد جاء اليها وهو يحلم بان يكون المقريء العظيم الذي صاره اليوم، وكان في الحجرة الثانية طالب طب هو اليوم طبيب مشهور، وكان في الحجرة الثالثة رجل هندي يجيد اللغة الانجليزية فاذا ما اثار غضبه رطن بالهندية كلاما لا نفهم له معنى!

وكانت الحياة فوق هذا السطح الخالد حياة غريبة وممتعة.. فنحن اربعة ومن الخلق جمعتنا هذه الحجرات المتقاربة برغم ما بيننا من فوارق في الميول من والاتجاهات والمشارب، هذه الميول التي كنت تستطيع ان تعرفها اذا فتحت الحجرات الاربع فجأة لترى ما يدور فيها.. اما انا فعاطف على كتاب عن السينما، او رواية مسرحية، او مجلة فنية تنتقد هذا الفيلم او ذاك.. اما الشيخ ابو العينين فهو جالس على كنبة يرتل القرآن او يقرأ كتبا في التفسير والتجويد.. اما طالب الطب فأمامه جمجمة يرتجف الجسد لمرآها مع عدد غير قليل من الاصابع والاطراف الآدمية.. وصديقنا الهندي غارق في كتبه الصفراء، بل كنت تستطيع ان تعرف اختلاف المشارب من ساعات عودتنا.. طالب الطب يعود قبل الاصيل ولا يغادر البيت، والشيخ ابو العينين يعود ليصلي العشاء في البيت ولا يتأخر الا اذا كان يرتل القرآن في مكان ما يعود ليصلي العشاء في البيت ولا يتأخر الا اذا كان يرتل القرآن في مكان ما.. ولكنه لا تفوته صلاة الفجر في المسجد المجاور.. وكان خروجه يحدث ضوضاء توقظ طالب الطب فيهب من نومه ليستذكر دروسه.. أما الهندي فيعود مع منتصف الليل بعد ان يقرأ عددا من الأكف لزبائن سمير أميس أو شبرد أو الكونتننتال وغيرها من فنادق مصر العظيمة.. وأعود أنا بعده بساعتين في الاقل لأستيقظ بعد الحادية عشرة من اليوم التالي.. فأجدهم كلهم قد غادروا حجراتهم..

شيء واحد لم نكن نختلف فيه نحن الاربعة.. ايجار الحجرات، فقد راعى صاحب الفندق أن يكون ايجاراً موحداً بالنسبة لنا جميعاً وقدره 150 قرشاً في الشهر الواحد..

وكانت هناك مناسبات كثيرة نجتمع فيها، نحن سكان السطوح، ونتبادل الحديث والسمر، كانت هناك الأعياد، وكانت هناك الغارات العنيفة التي يصب فيها الألمان فوق القاهرة عشرات القنابل.. وكانت أنباء هذه الغارات تشغلنا فنسلخ الساعات في الحديث عنها وعن ضحاياها.. كل هذا والهندي لا يلتقي بنا ولا يشهد مجلسنا ونحن نفسر ذلك بجهله للعربية ثم حدث ذات ليلة أن أطلقت صفارات الانذار، وكان جارنا الهندي في حجرته.. كانت تلك أول مرة تطلق فيها صفارات الانذار وهو معنا واذا بباب حجرته8 يفتح في سرعة خارقة، واذا به يجري الى الدرج وهو في ثيابه الداخلية.. وجرينا خلفه.. ووصلنا الى المخبأ في الظلام وتكدسنا فيه ورحنا نصلي لله أن يلطف بنا، فقد كانت غارة الألمان على حي الظاهر في الليلة السابقة غارة مروعة! وكان بجواري في الظلام رجل لم يكف عن قراءة السور القرآنية.. وكان يصيح في هستيريا بين كل سورة وأخرى: احفظنا يا حي يا قيوم!

يقولها بلهجة استاذ في الفقه وضليع في اللغة، وعرفت مصدر الصوت جيداً فقد كان الرجل بجواري مباشرة بحيث كان يستند بذراعه على كتفي.. وكان يرتجف فتنتقل رجفته الى قلبي.. ولكن ما أسمعه من آيات يبدد الارتجاف ويذهب به..

وأطلقت صفارة الامان فجأة.. وأشعلت عود ثقاب لأرى جاري، فاذا به جاري فعلاً، اذا به قارئ الكف الهندي، وصاح وقد فوجيء بأنني الذي بجواره، صاح في غير وعي:

* هو أنت؟!..

وعدنا الى البيت ونحن نتحدث بلغتنا –اللغة العربية- واعترف لي الرجل بما في حياته، قال انه من سويف، وقد ضاقت به سبل العيش في بلده فآثر أن يقيم في القاهرة ويتظاهر بأنه هندي، وقد تعلم بعض أسرار علم الكف في بعض الكتب.. وراجت تجارته لما اختار الفنادق الكبرى ليخدع بمظهره السائحين فيها.. أما سر عزوفه عن الناس فهو انه يخشى ان ينفعل فيضطر الى الحديث باللغة العربية فينكشف أمره.. بدليل انه انفعل ليلة الغارة فانكشف أمره لي، وتوسل الي الرجل ألا أبوح بسره.. وتظاهر بأنه مسرور لانه اطلعني وحدي على هذا السر مع انني كنت على يقين من أنه يسب الغارة والألمان الذين اضطروه الى الرطانة بالعربية وكشف ستره!

حسن الامام