حياة الكتّاب في فيسبوك.. الكتابة على سبورة مشاعة
عبد الزهرة زكي/
في ردٍّ كتبته لصديق عزيز كان يستفسر أثناء آخر مرة انقطعت فيها عن التواصل في فيسبوك، وكانت لأيام محدودة، قلت له: (فيسبوك مثل المقهى والحانة التي يصدف دائماً أن ينقطع عنها أحد روادها، وبصدفة مماثلة سيجد هذا المنقطع أقدامه وقد جرجرته من حيث لا يدري فيدخل المقهى والحانة ثانيةً).
الانقطاع بالمصادفة والعودة بمصادفة مثلها هما الوسيلة الأفضل لأي انقطاع وتواصل، وهما الوسيلة الأكثر ضماناً ليكون معها المرء حراً من الاستسلام للعادات ومن هيمنة هذه العادات على تنظيم حياته وتصرفاته.
ودائماً يجب على المرء أن يحافظ على حريته.
يحلو لبعضنا أن يقول إنه وجد حريته للتعبير من خلال فيسبوك وسواه من مواقع التواصل لكني أجد أن الكاتب بمختلف مجالات الكتابة قد يفرّط بالكثير من حرّيته في هذا (الفضاء الرحب).
إنه يربح شيئاً ليخسر أشياءً.
اضطراره للكتابة تماشياً مع موجات النشر والمنشورات في فيسبوك، وربما في مواقع أخرى للتواصل الاجتماعي، هو بعضٌ من هذه الخسائر في الحرية.
سيكون خاسراً سواء اتفق أم اختلف.. مجرد الاندراج في موجة هو خسارة.
مع حريته يكون الكاتب غير ملزم بالخوض في أي غمار خصوصاً حين يكون هو غير مسؤول وغير معني بما في هذا الغمار.
هذه هي حياة الكتّاب خارج مواقع التواصل وقبل وجودها.. يومياً في حياتنا الواقعية تمرّ عشرات الحوادث على الكاتب ومجتمعه وكان لكثير من الكتّاب أن لايقفوا عند أيٍّ منها ولا يكتبوا عنها، لكننا في وجودنا بهذه المواقع على الانترنيت بتنا نواجه ما يماثل الإلزام الذي نكون بمقتضاه مجبرين على قول شيء عن أيِّ شيء يثار.
ليس مناسباً لكاتبٍ أن يجعل من نفسه وكتابته مجرد ذرةِ غبار في عاصفةٍ هو ليس مسؤولاً عن إثارتها. بينما وجودنا في فيسبوك بات يلزمنا في كل حين على هذا التقليد الثقيل؛ الجميع يراد لهم أن يكونوا ذراتٍ في عواصف غبار تتكرر كل حين. ما أكثر ما نعبّر عن اختناقنا بفيسبوك وفي الحياة فيه!
هذه واحدة من أسوأ حالات خسران المرء لحريته، وهي خسارة للحرية يمضي إليها بموجب حريته.
نحن نأتي بمقتضى حريّاتنا لهذا العالم لنخسر فيه جانباً من حرياتنا. أن تظل تعيد كتابة موقفك عن حال أو حدث معين مع كل مرة يتكرر فيها هذا الحدث هو شكل من أشكال هدر الكلام والتعبير، الواقع أحمق فتتكرر فيه الأخطاء ولا ينبغي لكاتب أن يُستدرَج لهذا التحامق ليمضي مع الموجات اليومية الفيسبوكية.
وفيما صار هذا العالم الاتصالي واقعاً حيّاً في حياتنا، وتجاوز كونه وجوداً افتراضياً فقد بات من غير الممكن، وليس بمقدور الكاتب وغير الكاتب، تجاوز هذا الواقع الحي والاستغناء عن منافع ميديا التواصل. تجاوز العالم الاتصالي، أو الانصراف عنه، هو أيضا خسارة.
شخصياً حاولت قدر المستطاع تفادي الانجرار وراء تطورات التواصل عبر النت؛ حتى الآن لا وجود لي في غير فيسبوك، وكان هذا بعضاً من محاولة الحفاظ على الوقت وعلى حدود الاهتمامات، وهو محاولة للحفاظ على الحرية ولتفادي الانسياق وراء مغريات كلِّ ما يستجد وذلك في عالم بات سريعاً في مستجداته. حتى في الحياة اليومية، وليس فقط في هذا العالم التواصلي الافتراضي، ظللت أحرص على التخفف من كثير من تفاصيل وعلاقات واشتباكات حياتنا اليومية، واقعاً يبدأ الشعور بالمسؤولية إزاء الوقت والتصرف به في الغالب عند الشعور بالاقتراب من النهايات، وهذا داعٍ أساس للتمنّع على تلك التفاصيل تستلزمه كثرة الانشغالات التي تتراكم وتتكدس كلها فجأة ودفعة واحدة مع تنامي الشعور بضيق فسحة الزمن المتبقية. قبل أيام كتبت لصديق شاعر ما يشبه التمني الممتزج بالندم حين قلت له: ليت المرء ينجز كل ما لديه في سنوات شبابه لينفق ما تأخر من سنواته في متعة مَن يوشك على المغادرة، كل شيء في آخر السفر يبدو مستحقاً للتوقّف عنده ومنحه الكثير، فيما ليس في اليد إلا القليل الذي بالإمكان التصرف به.
ننسحب من كثير من تفاصيل عالم حياتنا اليومية مكتفين بما نراه أهم، وقد نكون مخطئين في تقديراتنا، إنما المهم في تقدير الصح والخطأ هو ما نحب وما نراه حاجةً أكثر من سواه.
وإذا ننسحب من تلك التفاصيل الحية الواقعية فإن الانسحاب من مغريات وتحديات العالم الافتراضي يكون أشد ضرورة، إنه عالم أكول ونهم ومغرٍ على حد سواء. كلما استسلم المرء لإغراء شيء منه فإنه يدفع ثمن هذا مما يُلتَهم منه، هكذا نختنق أحيانا كثيرة في فيسبوك.
نحن نختنق بفيسبوك، ونغادره أو ننقطع عنه..
بعض الانقطاع عن فيسبوك هو تعبير عملي عن الاختناق؛ الانقطاع هو خروج من عالم افتراضي للبحث عن هواء في عالم الواقع.
هذا بعض مستويات محنة الإنسان في العالم المعاصر؛ يختنق المرء في عالم الواقع واليوميات الجارية فيه فيهرب منها إلى عالم افتراضي يضيق هو أيضاً بعد حين بالهارب ليعود فيهرب باتجاه الواقع.
فيسبوك وسواه مهم ومفيد لنا.
هذه الأهمية بالنسبة لرجل مثلي هي في ما يوفره فيسبوك من اتصال وتواصل منتجين، لا وقت لتزجيته هنا ولا مزاج للتزجية..
وكل اتصال لن يكون إيجابيا ومنتجاً ما لم تضمن فيه حريتك واحترام هذه الحرية.
مهمة الكاتب هي في أن يكتب مع نفسه وفي دفتره الخاص أو على شاشة كومبيوتره الشخصي. التواصل مع
الآخرين بموجب هذا المكتوب هو مناسبة نادرة وتنظّم عبر وسيط هو الكتاب أو المجلة والصحيفة سواء الورقية أو الإلكترونية، وليس من خلال كتابة مباشرة وسريعة وعابرة وقابلة للحذف والإهمال والضياع كقطرة في بحر فيسبوكي.
متى كان الكتّاب يكتبون على سبورة عامة مشاعة؟
فيسبوك مناسب لإعادة نشر كثير مما ينشره الكاتب إنما ليس كل ما ينشره في كتاب أو صحيفة. يجب اختيار ما يناسب طبيعة القراءة والتواصل ونوع واهتمامات الأصدقاء. ليس كل ما ننشره في المطبوعات مناسب لإعادة النشر في فيسبوك.
فيسبوك يوفر أيضاً مناسبة طيبة للكاتب ليعبر عن رأي في مجال حين يجد الكاتب ضرورة لذلك وحين يجد أن هذه الضرورة ليس مجالها دفتره الخاص، لكن حتى في هذا يتوجب أن يكون الكاتب مائزاً في اختيار هذه الحالات بحيث لا تدرجه في موجة عامة وبحيث يكون التعبير عنها هو أيضاً غير مندرج في الصياح الجماعي الذي ينطلق كل حين في فيسبوك.
وخارج كل هذا ففيسبوك هو وسيلة تواصل اجتماعي.. وهي خاصية غير متاحة من قبل للكتّاب وسواهم بمثل هذه الحدود المتاحة في فيسبوك. يستطيع الكاتب أن يطلّ بما يشاؤه من تفاصيل حياته من خلال فيسبوك، لكن هذا هو أيضاً واحد من تحديات هذه المجّانية في إظهار الحياة الخاصة إلى فضاء عام. كيف يكون الكاتب استثنائيا في كل حال؟