حينما واسى شعراء بغداد متنبّيهم بين دخان حرائق المكتبات وحطامها

661

عبد الزهرة زكي/

لا أتذكر الآن مَن من الشاعرين أحمد عبدالحسين وأحمد عبدالسادة كان قد اتصل بي هاتفياً ليبلغني من جريدة الصباح باتفاق سريع بين عدد من الشعراء على أن يحيوا نهار الغد جلسة شعرية بين انقاض وحرائق شارع المتنبي.
الشاعران، وهما، مع الأسف، صديقان (لدودان) مع بعضهما، فرّقتهما اختلافات ثقافية وأدبية، ولكن وما بين نسياني ومحاولة تذكري من منهما كان المتصل بي،
ها هما يجمعهما ويوحدهما موقف واحد يؤكدان به على ضرورة حضور الشعر مواسياً ومدافعاً عن شارع لم تمض على استهدافه سوى دقائق وما زالت جراحه تنز دماً ونيراناً ورماداً ودخاناً. إنها واحدة من أشد لحظات محن المثقفين العراقيين مع العنف، وقد بات متوقعا في كل مكان وكل حين من أحيان تلك السنوات السود.
كنت في جريدة المدى حين جاءني الهاتف من جريدة الصباح يبلغني بالجلسة الشعرية المزمع انعقادها ويطلب مني المشاركة.. كلا الجريدتين هما تجمّعان لعدد من أدباء العراق الذين احترفوا مهنة الصحافة. كان لي أن أتخيّل صور وانفعالات الأصدقاء والزملاء في (الصباح). الصور التي تتركز أمامي في القاعة الكبيرة لجريدة المدى، حيث توقف العمل، تعبّر بوضوح عن ألم ويأس وغضب جميع أصدقائي الأدباء والصحفيين في الجريدة. صورة جماعة (المدى) كافية لتفصح لي عن الصورة الأخرى الموازية، صورة جماعة (الصباح) وهم يتابعون خبر التفجير.
قبل التلفون بدقائق سمعنا، ونحن في الجريدة، قريبين من شارع أبي نواس، صوتَ الانفجار. عرفنا مباشرةً من فضائيات ووكالات أنه في شارع المتنبي؛ وسائل الاعلام التي يملكها ناقمون على العراق هي الأسرع والأقرب دائماً من مكان وتوقيت أي تفجير. العدو يسأل ويعرف أكثر من الصديق، هكذا يقول المثل العراقي، فخلال أقل من خمس دقائق كان الخبر في قنوات الحرب الاعلامية القريبة بهذا الشكل أو ذاك من القاعدة وتسميات الارهاب الأخرى. وكان تفجير المتنبي واحداً من أبشع جرائم الارهابيين في تلك السنوات، وبما يحق لأذرعهم الإعلامية أن (يُسعَدوا) به.
أمامي، وأنا ساهم، ومن خلال كثافة دخان سيكارتي، كان يقابلني الجميع في قاعة تحرير (المدى)، وفي قسمها الفني، كل منهم كان يظهر لي على مقعده معتزلاً سواه ومنحنياً برأسه على فراغ مهول، لا يشغله سوى الصمت الأشد هولاً والحزن الذي أطبق على المكان. إنهم هناك حيث حريق (المتنبي) وليسوا هنا في مبنى الجريدة، ولا في عملها اليومي المعتاد؛ أين نمضي، وأين تمضي البلاد؟
قلت للمتصل، أحد الأحمدَين وربما ثالث سواهما: حسناً فعلتم، لابدّ من هذا.. سأعدّ أيضاً، إلى جنب قصيدة عن الشارع، بياناً سيكون باسم شعراء بغداد، وسأجعل منه موجهاً لشعراء العالم.
حقيقةً كان الشعراء وعموم المثقفين، ومعهم ما يشبه الاجماع الشعبي، يوحدهم شعور فظيع بالخذلان من المثقفين العرب وعموم مثقفي العالم. إنه خذلان ظل متوقعاً منذ عقد الثمانينات ومتواصلاً باشكال وبمواقف متباينة.
لكن بعد 2003 فُتحت حدود العراق مع عرب وغير عرب ليتدفق منها عشرات ومئات من الانتحاريين والجهاديين الآخرين. سوء الإدارة الأمريكية والعراقية التي حكمت العراق تعاضدت مع رغبة القاعدة المدعومة بمخابرات إقليمية وربما دولية في تدمير العراق وإبادة العراقيين. وكانت جريمة شارع المتنبي هي التعبير الأشد فصاحةً عن دموية الإرهاب والعنف المتدفق على البلد والمتفجر فيه، إنه إرهاب غير معني بهوية وغير منشغل بهدف معين، إنه عنف من أجل العنف، هياج من أجل القتل والتدمير، نزوع سادي نحو الإبادة، وشبق مولع بالنيران، ولا فرق ما إذا كانت هذه النيران تلتهم زيداً أم عمراً. ما هو مهم أن تستمر النيران وأن يحترق بشر.
اتصلت هاتفياً بزميلنا المحرر في الجريدة جلال حسن لأطمئن عليه أولاً، فهو من باعة الكتب في المتنبي منذ التسعينيات ولم تنقطع صلته بالشارع حتى بعد عمله صحفياً، وحين ردّ عليّ وطمأنني فإنه كان يتحدث بألم عظيم لما حصل؛ لقد كان يتحدث معي من الشارع الجريح والضحايا كلهم أصدقاء ومعارف، وهم في كل حال ضحايا أبرياء يتألم المرء على فواجع مصائرهم حتى وإن لم يكن يعرفهم، طلبت منه بعد الاطمئنانِ العملَ سريعاً على إعداد تقرير موسع عن الجريمة لنشره في عدد اليوم التالي. كانت الجريدة حينها تغلق صفحاتها في الساعة الخامسة عصراً حيث تتوقف الحركة في المدينة وتوحش طرقاتها ليكون كل شيء سيئ متوقعاً للعاملين فيها وهم يعودون إلى منازلهم في تلك الوحشة. لابد للتقرير، قلت لجلال، أن ينجز بمدى ساعتين كحد أقصى، وهذا ما حصل فعلاً. ففي الساعة الرابعة كان جلال في الجريدة وكان تقريره بمساحة صفحة كاملة جاهزاً للنشر.
لم أنم ليلتها؛ كنت في بيتي، وقد نام الجميع، حين أردت كتابة القصيدة حضر ببالي المتنبي والحلاج، كلاهما عراقيان قتيلان، أولهما اغتالته الكراهية والثاني أعدمه التكفير، وما بين شارع المتنبي في الرصافة والقبر الرمزي للحلاج في الكرخ ليس سوى نهر دجلة، إنه أنيس بغداد بلياليها ومسراتها وهو حافظ دمائها وحبر كتبها حين نكباتها. كانت هذه الرموز الثلاثة، المتنبي والحلاج ودجلة، هي روح القصيدة التي كتبتها في تلك الليلة قبل أن أتفرغ لكتابة صيغة بيان باسم شعراء بغداد. لقد أردته صوتاً إنسانياً، بكل ما تكون عليه كلمة إنسان من عاطفة بمثل ذاك الحال، لا فذلكة ولا تقعر ولا فائض ثقافي، من أين لي هذا البطر.. يكفي أن يكون الصوت إنسانياً حين تتهدد إنسانيتك، الصوت وصفته الإنسانية يختصران كل شيء وبهما تتكرس قوة الإنسان والحياة بمواجهة الموت.
حين أكملت مسودة البيان كان الفجر قد أكمل إيصال الشمس إلى المدينة؛ غادرت غرفتي إلى حديقة صغيرة في البيت. صوت عصافير استيقظت على زرقة السماء التي بدت فاتنة، بينما هناك على سياج بيت مقابل تتعانق فاختتان تخلفتا عن سرب حلق بعيداً، ثمة عشب بدأ يستعيد خضرته التي يضارع بريقُها بريقَ تلك الزرقة التي فوقه، وثمة أزهار سبقت خروجي وقد بدت لي تضحك من أعماق تويجاتها بتفتّحها لوجه الشمس، وثمة قداح ما زال ورقُه الأبيض غضاً جديداً، اكتشفته للمرة الأولى على بعض شجرات ليمون الحديقة، شجرة الكاردينيا غمرت الحديقة بعطر عابق من ورد أزهر قبل الأوان. إنها الحياة التي يجب أن تستمر. رششت حياة الحديقة بالماء ولم أستطع، يا ألله، أن إلا أفكّر، وأنا في هذا الفردوس، بما يمكن أن يحمله نهارٌ جديدٌ إلى بغداد، مدينة السلام، من تفجيرات وقتل.
التتمة في العدد المقبل