رائعة ديكنز التي وثقت تقاليد الكريسماس.. ترنيمة عيد الميلاد

343

علي الياسري /

لا شيء يضاهي استعادة روح عيد الميلاد على وهج كلمات الكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز، التي اجتمعت في روايته القصيرة (قصة شبح عيد الميلاد)، كلما اقترب يوم الخامس والعشرين من كانون الأول من كل عام. حكاية فيكتورية أيقونية وثقت تقاليد الكريسماس الحديثة كاحتفالية بكل المعاني الإنسانية التي تجلبها المناسبة، من ألفة وتواصل وإشاعة الفرح والبهجة بالتعاطف والمشاركة.
لا غرابة أنها تحولت إلى مسرحيات وأوبرا، وبالطبع إلى صورة سينمائية، إذ أنتج -على مر السنين- العديد من الأفلام التي عالجت قصة ديكنز الشهيرة حول تلك الأشباح التي تمثل فرصة نجاة أخيرة من عذابات الآخرة بفعل دنيوي طيب وحسن، حين سعت -كجرس إنذار- مثل دقات الساعة المرافقة لظهورها كل مرة على خلاص السيد سكروج، البخيل المتعجرف، من قيود روحه الدنيوية برؤية تحاول نشر المحبة والتكاتف والسلام، مجددة روابط اجتماعية بالغة الأهمية في صراع العيش اليومي، وتمثل أملاً مستقبلياً يمكن أن يحافظ على مفاهيم الأخلاقيات الإنسانية كمحور وجود في السلوك والتعامل.
إن التطلع إلى الماضي والحاضر لاستشراف المستقبل سيكون من المثابات التي تتحرك في ضوئها فصول الرواية، مؤكدة على أن قدرة الإنسان على الفعل الإيجابي -طالما كان على قيد الحياة- هي المنفذ لبناء الاطمئنان الروحي والذكرى الطيبة من خلال النهج والتصرف.
نسخ متباينة
تباينت نسخ الأفلام العديدة، التي اقتربت من ترنيمة ديكنز لعيد الميلاد، في كيفية سرد الحكاية، فمنها من اختار التوازن بين شخصياتها وفصولها مانحاً الصورة السينمائية نظرة متفائلة، مُهذباً الكثير من الجوانب المظلمة لصالح الجو الاحتفالي للمناسبة، وبعضها الآخر ذهب إلى التركيز على شخصية سكروج المتعجرفة والبناء على السوداوية والجانب الكئيب الداكن المترسبين في ذاته قبل أن تجري المواجهة التي تسحبه إليها أشباح أعياد الميلاد نحو مراجعة ماضيه والإطلالة على نهايته الحتمية لينقلب إلى شخصية أخرى تحب الحياة وتسعى لفعل الخير.
معالجة فنتازية
لعل أبرز المعالجات السينمائية المتواشجة -بشكل مكثف- من نص ديكنز المُلهم، هي نسخة المخرج برايان ديزموند هيرست، الصادرة عام 1951 ونسخة المخرج كليف دونر المصنوعة بالأساس للتلفزيون العام 1984، دون أن ننسى نسخة العام 1938 للمخرج إدوين إل. مارين، وكذلك الرؤية المميزة لفيلم المخرج رونالد نيوم الصادر العام 1970 كمعالجة فنتازية موسيقية، بالإضافة إلى أبرز أفلام الأنميشن الصادرة عام 1994 كفيلم تلفزيوني ضمن انتاجات استوديو الرسوم المتحركة الياباني الأمريكي جيتلاغ، او نسخة شركة ديزني المنتجة العام 2009.
سكروج
تحظى نسخة المخرج هيرست بالتقدير لاقترابها السردي بشكل مثير للإعجاب حقاً من الروح التي وضعها ديكنز في القصة، وتفاصيل الحدث العاكسة لنمط الحياة وقتها، بالإضافة إلى بناء الموقف الدرامي ووقعه على شخصية سكروج، مع الإلهام البصري الهائل للأبيض والأسود وخيالات الظل. لقد مثل هذا الالتزام نقطة قوة جاذبة للجمهور الذي تَلمّس أرواح الشخصيات على الشاشة الكبيرة بعد أن كونهم في خياله عند قراءة كتاب ديكنز.
وحين سعى المخرج كليف دونر لصنع نموذجه الخاص من سكروج، وهو الذي عمل مونتيراً في نسخة العام 1951، عرف أن أضمن شيء للخروج من عباءة هيرست هو الارتكان إلى ملاءمة الكاستنغ للشخصيات بما يضمن جودة تمثيل ستكون العصب الأساس لنجاح الفيلم، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن القصة -بحد ذاتها- مكثفة لكونها رواية قصيرة، ما يسمح بخروج سيناريو غير مهلهل يمتلك الحد الأدنى -على الأقل- من التماسك، كما أن طبيعة الأسلوب الروائي لديكنز يقترب بشكل كبير من لغة السينما.
العمق الدرامي
بين أليستر سيم (1951) وجورج سي سكوت (1984) تُقدِم لنا الأداءات التمثيلية المميزة انعكاساً للعمق الدرامي والغنى الروائي الذي كتب به ديكنز القصة، وهو أمر ليس من السهل الإمساك به دون تجسيد يستحضر ملامح شخصية أبنيزر سكروج، المُرابي الذي يكره البشر وعيد الميلاد، ويجتاح قلبه صقيع المشاعر، وينطفئ في عينيه ضياء الروح المُكَبلة بقيود الأنا وحب الذات.
تُظهِر موهبتهما، المُرتسمة تعبيرات مُلهمة على الوجه، إمكانات رائعة في التقمص، بما يسمح لنا بالمقارنة مع تمثيل ريجنالد أوين (1938) المفتقر لجوهر الشخصية -نوعاً ما- حين طاف حولها ولم ينزل إلى قعر الظلمة التي هيمنت على روحها قبل النجاة، بينما كان ألبرت فيني متوهجاً في رؤية المخرج نيوم الموسيقية للرواية (1970) بتمثيله وقدراته الخلاقة في طرح سكروج وفق أسلوبه، غير أن ملامح وجهه لم تكن منسجمة مع الوصف المُتشكل بكلمات ديكنز في القصة، فحد ذلك من تألقه.
لا تفتأ حكاية ترنيمة عيد الميلاد تعيد تجديد طقوسها كل عام، وكذلك علاقتها بالسينما بفضل رحلة خلاص السيد سكروج، بعد أن امتد تأثيرها المجتمعي إلى حد أن الكثير من أنماط السلوك والاحتفال بالمناسبة بات تقليداً سنوياً تعيش فيه الأسر لحظات السعادة والابتهاج والسلام الروحي.